من مفارقات المثقفين في العلاقة مع الفكر الغربي
من الظواهر الدالة ثقافيا وبشكل متعاكس في المجال الفكري العربي المعاصر، الظاهرة التي تتيحها لنا المقابلة أو المقارنة بين مقدمتين مهمتين لكتابين عربيين هما: مقدمة كتاب «تجديد الفكر العربي» للباحث المصري الدكتور زكي نجيب محمود «1322 - 1414 هـ /1905 - 1993م» الصادر سنة 1971م، ومقدمة كتاب «مدخل إلى التنوير الأوروبي» للباحث السوري الدكتور هاشم صالح الصادر سنة 2005م.
ما بين هاتين المقدمتين التي تفصل بينهما ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان، نقف من جهة أمام نصين لهما أهميتهما من ناحية بيان الموقف الفكري، ونقف من جهة أخرى أمام مكاشفتين لهما أهميتهما كذلك من ناحية بيان الموقف النفسي، ومن جهة ثالثة نقف أمام مفارقتين لهما أهميتهما الفائقة من ناحية بيان تعاكس الموقف في العلاقة بين الذات والآخر.
من ناحية النص، فإن المقدمتين المذكورتين بالإمكان عدهما في منزلة النصوص البليغة والمؤثرة التي تظل عادة حاضرة في دائرة التذكر والاهتمام، وتكون بعيدة عن المحو والنسيان، وقد ظهر هذا الأمر متجليا في مقدمة كتاب الدكتور زكي نجيب محمود التي ما أن عرفت حتى أصبحت واحدة من أكثر النصوص تداولا، ليس على مستوى الكتاب فحسب وإنما على مستوى جميع مؤلفاته تقريبا، وأظن أن مثل هذا الحال سيحصل لمقدمة كتاب الدكتور هاشم صالح متى ما عرفت.
وجاء إطلاق وصف النص على هاتين المقدمتين لكونهما قد غطتا نسبيا على الكتابين، ونالا شهرة بسببهما أو بتأثير منهما، وهذا ما ظهر واضحا في كتاب الدكتور محمود، فالمقدمة الوجيزة مثلت أهم نص فيه، وأسهمت في لفت الانتباه إلى الكتاب، وقادت إلى التعرف عليه، فهي التي قادتني إليه وعرفتني به، باعتبارها النص الأكثر شهرة، وشيء من هذا القبيل ولكن بشكل متعاكس سيحدث لكتاب الدكتور صالح حين تعرف مقدمته.
ومن ناحية المكاشفة، فهي تظهر متجلية عند الإشارة إلى النصين، وسنكتفي بقسط منهما الدال على مقصدنا، وهما:
النص الأول: افتتح الدكتور محمود مقدمة كتابه بهذه المكاشفة قائلا: أنه «واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي قديم أو جديد، حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواما بعد أعوام، الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ، وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة كالأشباح الغامضة، يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين... ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغي لنا أن نزيد... اسيقظ صاحبنا - كاتب هذه الصفحات - بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه، فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان... ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل، هكذا أخذ صاحبنا يعب صحائف التراث عبا سريعا».
النص الثاني: تحدث الدكتور صالح مكاشفا عن حاله في مقدمة كتابه قائلا: «كان من مصادفات الأقدار، مصادفة لا يجود بها الزمان إلا قليلا، أني حظيت بمنحة دراسية إلى فرنسا قبل حوالي ثلاثين سنة، فتعرفت على لغتها وثقافتها وحرياتها، وأدرت ظهري كليا للشرق العتيق، وأتاح لي ذلك أن أتنفس الصعداء، أن أقيم مسافة بيني وبين نفسي، أن أعلن العصيان على كل ما أسسني منذ نعومة أظفاري، وبالتالي فأنا مثقف منشق... وكان من حسن حظي أن وطأت قدماي هذه الأرض الطيبة، هذه الأرض المحرّرة من اللاهوت الطائفي والمذهبي الذي يعشعش الآن في المشرق ويكتسحه كليا... ولهذا السبب وجدت نفسي مدفوعا بشكل لا شعوري تقريبا إلى الانخراط في هذه الدراسات عن الفكر الأوروبي، فعلى مدار عشرين سنة أو أكثر كانت شغلي الشاغل، وكانت أكبر متعة في حياتي، وأكبر رحلة استكشافية في أعماق الزمن وبطون الكتب».
هذا الموقف المثير للجدل، قاد هاشم صالح لأن يعتبر أن موقف الاتحاد الأوروبي كان محقا في دعوته إلى تغيير مناهج التعليم الديني، وحسب قوله: «ولذلك أقول إن الاتحاد الأوروبي على حق عندما يدعو العرب والمسلمين إلى تغيير برامج التعليم الديني لديهم لأنها تدرس الدين بطريقة تقليدية قروسطية، عفى عليها الزمن»
ليس هذا فحسب، بل إنه شبه الاحتلال الأمريكي للعراق بتدخل نابليون في أوروبا، معتبرا نفسه من أنصار التغيير في العراق والمنطقة بأسرها، ونص كلامه: «إني كنت من أنصار التغيير في العراق والمنطقة بأسرها ولا أزال، وقد شبهت التدخل الحاصل هناك بتدخل نابليون بونابرت في القارة الأوروبية عندما غزاها وحمل إليها أفكار الثورة الفرنسية في التنوير والحرية والإخاء والمساواة».
وكما ظهر الدكتور محمود راغبا بالحديث عن هذه المكاشفة التي غيرت وجهته الفكرية، وقلبت موازينه الذاتية، وبدلت مشاعره النفسية، ظهر كذلك الدكتور صالح مدفوعا بهذه الرغبة وبحماس أكبر يفوق ولا يقارن بسلفه، كاشفا عن مشاعر الغضب في داخله، معلنا العصيان، ومعترفا بالانشقاق، ومصطفا مع المفكرين الغاضبين، ومنحازا للتاريخ الأوروبي فكرا ورجالا.
ومن هنا تتبين المفارقة، وتتكشف صورتها الحادة، فنحن أمام ظاهرة متعاكسة، في وجهتها الأولى هناك تحول في الموقف من الانحياز للثقافة الغربية والغلو في الانجذاب إليها إلى الاقتراب من الثقافة العربية، وفي الوجهة الثانية هناك تحول عكسي في التباعد من الثقافة العربية والقطيعة مع تراثها إلى الانغماس في الثقافة الغربية والتواصل مع تراثها.
أمام هذه المفارقة الحادة وعملا بالتفسير النقدي، تتبين لنا الوجوه الآتية:
الوجه الأول: تكشف هذه المفارقة عن إحدى صور محنة المثقفين في المجال العربي، حين يفقدون توازنهم الروحي والفكري أمام الثقافة الغربية، وعندئذ نراهم يبالغون في الانجذاب إليها والتعلق بها، ظنا منهم أنهم وجدوا ظالتهم التي يفتشون عنها، وبتأثير هذا الغلو يقطعون صلتهم الروحية والفكرية مع تراثهم وتاريخهم، ويظهرون قسوة تجاه ثقافتهم وتبعية تجاه ثقافة غيرهم بطريقة لا توازن فيها، كما حدث للدكتور محمود سلفا وللدكتور صالح تاليا.
الوجه الثاني: لم يكن الدكتور محمود قبلا أقل حماسا واندفاعا من الدكتور صالح في التخالف مع الثقافة العربية والتعانق مع الثقافة الغربية، فقد عرف بموقفه المغالي معلنا صراحة بتر التراث من جهة، والاندماج كليا في الغرب من جهة أخرى، ونصوصه شاهدة عليه، فعن بتر التراث صرح في كتابه «تجديد الفكر العربي» قائلا: بدأت «بتعصب شديد لإجابة تقول إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون، ونجد كما يجدون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فإما أن نقبلها من أصحابها - وأصحابها اليوم هم أبناء أوروبا وأمريكا بلا نزاع - وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانبا ونترك جانبا كما دعا إلى ذلك الداعون في اعتدال، بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوروبا وأمريكا وجهلي بالتراث العربي جهلا كاد أن يكون تاما، والناس كما قيل بحق أعداء ما جهلوا».
وعن الاندماج في الغرب بهذه الصراحة المثيرة للدهشة، دعا الدكتور محمود في كتابه «شروق من الغرب» الصادر سنة 1951م، قائلا: علينا «أن نندمج في الغرب اندماجا، في تفكيرنا وآدابنا وفنونا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلى الدنيا... وأن تكون مصر قطعة من أوروبا».
مع ذلك انقلبت الصورة عند الدكتور محمود وتحولت وجهة الحماس والاندفاع من الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية، بمعنى أن حماس الدكتور صالح للثقافة الغربية وبالصورة التي ظهر عليها ليس في مكانه، ومن الممكن أن تقوده التجربة إلى نفس المالآت التي انتهى إليها من قبل سلفه الدكتور محمود والذي فاقه وفاق غيره ارتباطا بالثقافة الغربية وتعمقا.
الوجه الثالث: كان المفترض لتجربة الدكتور محمود في العلاقة مع الثقافة الغربية أن تخلق مراجعات جادة في ساحة المثقفين العرب، وخاصة عند أولئك الذين تعلقوا بالثقافة الغربية سحرا وانبهارا، وقطعوا في المقابل صلتهم أو تراجعت هذه الصلة مع ثقافتهم العربية الاسلامية، لكن هذه المراجعات لم تحدث، ومضت تلك التجربة المهمة دون أن تغير في الوجهة الفكرية لهؤلاء المثقفين، ولن يحصل هذا التحول إلا في لحظة العودة إلى الذات.