آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

الحسين.. كبش العدالة الإنسانية

أيمن رجاء النخلي *

 نصرة الإمام اللحسين بإقامة العدل 

إن حقيقة إنتصار الإمام الحسين في قضيته هو في أن تتحقق العدالة الإنسانية، ويُرفع الظلم، وتحترم الحقوق. ولكي تتحقق العدالة في الأرض، لابد وأن تنكر البشرية الظلم وجدانياً وعقلياً وتشريعياً، وأن تعمل على تطبيق العدالة. فكانت مظلومية الإمام الحسين هي السراج الوضّاء الذي لا يخمد أبداً لتحقيق العدالة الإنسانية. وإذا شاءت الإنسانية أن تتغير وتحقق العدالة المطلقة فعليها أن تحيي مظلومية الإمام الحسين وقيمه التي جاهد لأجلها.

إن إنتصار المظلوم على الظالم هو ليس فقط بدفع الظلم عنه في حياته، وليس فقط بإظهار مظلوميته وحقوقه المغتصبة، وإنكارها، بل بإقامة العدل في الأرض ومنع تكرار هذا الظلم، ولذلك نهض الإمام الحسين . فلقد ضحى الإمام بنفسه وولده وأصحابه لأجل إقامة العدل في الأرض، ومنع الظلم.

ولكي تعمل الإنسانية على إقامة العدل في الأرض، كان لابد وأن يكون هناك كبش فداء عظيم بحجم قادر على تحريك الإنسانية على مرّ العصور، وهو الإمام الحسين الذي ضحى بنفسه لأجل إيقاظ الضمير الإنساني، ونشر الوعي بالحقوق، ورفض الظلم، وإقامة العدل في الأرض.

إصلاح العالم يحتاج لكبش فداء

لقد كان الإمام الحسين كبش الفداء لإيقاظ العالم، ودفعهم نحو العدالة. إن تطور العقل البشري كان بحاجة لكبش فداء يوقظ ضمير الإنسانية ووعيها لكي تتحرك نحو إقامة العدل. لقد أوضح الإمام الحسين في حركته كيف يواجه الظلم لأجل العدل ولو احتاج ذلك إلى التضحية بالنفس والنفيس. وإنما كان النداء الذي أطلقه الإمام الحسين يوم العاشر «ألا من ناصرٍ ينصرنا لوجه الله» هو دعوة للناس لكي يعملوا على رفض الظلم وإقامة العدل في الأرض.

ولكي يرتفع الظلم من الأرض وتتحقق العدالة الإلهية، فإنه كان لابد وأن يكون هناك كبش فداء، يمثل الحق المطلق في قضيته، في قبال الظلم المطلق من قبل أعدائه، وتكون حركته لأجل الإنسانية لا لمصالح ذاتية، وتسيل دماؤه ظلماً وعدواناً لأجل الصلاح في الأرض، وكان ذلك الكبش هو الإمام الحسين . إن فضاعة الظلم الذي حدث يوم عاشوراء على الإمام وأصحابه وأطفاله ونساءه، هو بحجم العاطفة الضرورية لتحريك وجدان العالم وإيقاض عقولهم لرفض الظلم بكل أشكاله، والعمل على إقامة العدل.

فكبش الفداء كان ضرورياً لإصلاح الضمير الإنساني في رفض الظلم وإنكاره والوقوف في وجه الظالمين، وعدم الوقوف موقف اللامبالاة، والعمل على إقامة العدل. فالوجدان له تأثير كبير على أسلوب تفكير الإنسان، وقراراته. وأول إصلاح يحدث بإحياء عاشوراء هو إصلاح المرء لنفسه، فيصبح الإنسان منكراُ للظلم، فلا يكون ظالماً. وعادلاً في حركته، وهو ما يدفعه لمعرفة الحقوق. ومدافعاً عن المظلومين، وهو ما يجعله إنساناً رسالياً.

وكذلك فإن الإمام الحسين ليس مغيراً على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى المجتمعات والإنسانية [تن تنكر الظلم، وتسنن تشريعات للعدالة ومنع الظلم، بل وتنصر المظلوم وتعاقب الظالم. فالبشرية بحاجة إلى شمس وضّاءه تنير طريق العدل، وتميّزه من الظلم.

وكانت شعائر عاشوراء ميقاتاً لإحياء هذا الوجدان، وإشعاعاً لثقافة الحقوق ورفض الظلم، ومناراً لإقامة العدل الإلهي.

لماذا الحسين..!

إن قضية الإمام الحسين هي الأوضح على مر التاريخ، فلا توجد معركة يتضح فيها الحق ضد الباطل والعدل ضد الظلم كمعركة كربلاء.

لا توجد قضية في التاريخ أكثر جلاءاً ووضوحاً من معركة عاشوراء من جهة عدالتها ومظلومية أبطالها، وتفاصيل أحداثها. هناك الكثير من المظالم التي حدثت وتحدث في الدنيا، ولكن قد لا يكون المظلوم نزيهاً بشكل كامل، أو لا يكون صاحب قضية عادلة، أو أن تكون قضيته شخصية. ولكن ما يميز معركة كربلاء هو عدالة الإمام الحسين في رفضه ليزيد ومطالبته بحقه الضائع من الولاية. ومن جهة أخرى، فإن الإمام الحسين لم يخرج للمطالبة بمصالح شخصية، بل خرج لإصلاح الأرض وإقامة العدل، فخروجه كان لأجل البشرية جمعاء، فجعل دماءه وسيلة لإيقاض البشرية ودفعها نحو ما يصلحها.

أما البعد الآخر، فإنه كان بإمكان الإمام الحسين أن يتفادى المعركة بطريقة أو بأخرى. إما بالتنازل والتصالح مع يزيد مقابل شروط، أو الخروج من الدولة الإسلامية أو غيرها. ولكن الإمام الحسين إختار المواجهة الكاملة مع قلة العدد وخذلان الناصر. ولقد إختار الإمام الحسين المواجهة رغم يقينه بخسارته المعركة عسكرياً، وهذا يدل أنه لم يكن للإمام الحسين وأصحابه أي أطماع شخصية أو دنيوية. فهم بمقياس الدنيا يخسرون كل شيء، أما بمقياس الآخرة فإنهم يحققون النصر المطلق.

إنه لا توجد معركة على مرّ التاريخ يتقابل فيها الظلم بكل معانيه، مع العدل بكل معانيه، ويكون المظلوم فيها مضحياً بذاته وأولاده وأصحابه وسبي نسائه لأجل إصلاح البشرية، كمثل معركة كربلاء. لذلك كان واجباً شرعياً ووجدانياً وعقلياً إحياء مظلومية الإمام الحسين .

وضوح الرؤية

هناك الكثير من الثوّار الذين لا يملكون الرؤية الصحيحة، والتشخيص الدقيق لأدوارهم وأبعادها. وحتى لو كانوا أصحاب قضايا عادلة، ولكنهم يخطئون في تقدير أدوارهم الصحيحة، وتكليفهم الشرعي. فتكون أعمالهم خاطئة وقاصرة، وربما تحمل بعضاً من الإثم، وربما لا تكون قضاياهم عادلة، فيكونوا أيضاً ظالمين بطلب مالم يستحقون، فلا تحقق أعمالهم النجاحات المطلوبة، بقدر ما تؤدي إلى الخسائر. فالمظلوم إذا طالب بما لا يستحق، فإنه يكون آثماً وظالماً أيضاً. لذلك فإن إقامة العدل تحتاج إلى معرفة ورؤيا واضحة.

بينما الإمام الحسين كان نافذ البصيرة، صلب الإيمان، يعلم ماهو مقدمٌ عليه، وماهي الخسائر والنتائج الممكن تحقيقها على المدى القريب والمدى البعيد والأبدي. ولذلك أطلع الإمام الحسين أصحابه منذ اليوم الأول على ماهو مقبلٌ عليه. ومحّص أصحابه حتى لا يستشهد معه من لا يملك هذه الرؤيا. بل إنه أسقط عن أصحابه ما هو له من الولاية وسمح لهم بالإنصراف عنه. فهو لا يريد أن يظلم معه من لا يملك هذه الرؤيا.

لماذا لا تنتهي قضية عاشوراء

إن قضية عاشوراء لا تنتهي أبداً لأنها السراج الوضّاء الذي ينير درب السالكين لتحقيق الوعد الإلهي، والفتح الأكبر، وإقامة العدل في الأرض. فقضية الإمام الحسين ليست مرتبطة بزمن محدد، أو مكان محدد وتنتهي. بل هي قضية مفتوحة حتى إقامة العدل في الأرض.

إن نصرة المظلوم ليست قاصرة على حياته، بل هي أيضاً واجبة بعد وفاته أو استشهاده. فحتى لو قتل شخصاً مظلوماً، فإن إظهار مظلوميته وحقوقه المغتصبة، وكيفية قتله، وأسباب قتله، تعد أيضاً من نصرة المظلوم. وأن لا يذهب دمه هدراً، وقضيته سدى. فموت المظلوم لا يُسقط القضية ولا يلغيها، بل إن استشهاده مظلوماً يجعل نصرته أكثر وجوباً وأهمية.

وإذا كان الإمام الحسين إستشهد من أجل إنقاذ البشرية، ورفض الظلم، وإقامة العدل في الأرض، ومن أجل حرية الإنسان وكرامته وعدالته. فهذا يجعل نصرته واجبة عقلاً وشرعاً على البشرية جمعاء، بكل أشكال النصرة، بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم ومعتقداتهم. فعلى البشرية جمعاء، بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم، إحياء ذكر الإمام الحسين وذلك لإصلاح الأرض وإقامة العدل.

وإذا كان هذا المظلوم هو سبط النبي ﷺ، وهو إمام على الأمة الإسلامية، ولأنه استشهد لأجل الإنسانية وكرامتها وإقامة العدل، ولأجل قضية محورية لسلامة الإسلام وهي الولاية. لذلك فنصرة الإمام الحسين واجبة على جميع الأمة الإسلامية بلا استثناء، السابقين واللاحقين. فيجب على جميع المسلمين نصرة الإمام الحسين سيان قبل استشهاده أو بعدها.

أبعاد قضية الإمام الحسين

مظلومية الإمام الحسين لها ثلاثة أبعاد. البعد الأول أنه ظلم في ذاته وأصحابه وأهل بيته، فقد قتلوا بلا ذنب ارتكبوه في حق أحد، واجتز رأسه عطشاناً، وسبيت نساءه، فهي مظلومية على المستوى الشخصي. وهذا البعد يستوجب النصرة له ولأصحابه على أقل تقدير، ورفض الظلم الذي وقع عليهم.

والبعد الثاني هو مظلومية الإمام الحسين رسالياً. فالإمام الحسين كان يحمل رسالة إنسانية، فمظلوميته لم تكن مظلومية فردية، وخلاف بينه وبين شخص، بل إن الإمام الحسين كان صاحب رسالة وقضية تمثل الإسلام في رفض الظلم وفي رفض ولاية يزيد، فيزيد كان مجاهراً بالفسق، وقاتل للنفس المحترمة، فخروج الإمام الحسين هو موقف رسالي وديني وواجب شرعي لسلامة الإسلام. فالإمام لم ينهض لأي مصالح شخصية، فليس هناك أي تقاطع للمصالح الشخصية مع الرسالة التي أراد تأديتها، فلقد ضحى بكل ما يملك من أجل الإنسانية. وعادة السياسيين أن تحركهم المصالح، فلا معنى للتضحية الكاملة في أجندتهم، بل عادةً ما يتعلقون بأمل تحقيق المصالح العاجلة، والانتصار الدنيوي. ولكن الإمام الحسين لم تكن له مصالح دنيوية، ولذلك ضحى بأغلى ما يملك من أولاده وأصحابه ونفسه.

البعد الثالث هو أن الإمام الحسين ضحى بنفسه لكي يكون كبش فداء لإيقاض ضمير الإنسانية ووعيها، ولكي تعمل على إقامة العدل في الأرض ومنع الظلم. وهذا البعد يوجب نصرة الإمام الحسين على كل البشرية لأجل صلاحها.

معرفة الحقوق، ورفض الظلم

ومن نصرة الإمام الحسين هو منع الظلم في الأرض، وتحقيق العدالة الإلهية. ولتتحقق العدالة لابد أولاً من نشر ثقافة الحقوق، ومن ثم تشريعها والحفاظ عليها، وآليات تطبيقها. والبعد الآخر هو نشر ثقافة إنكار الظلم وتبغيضه إلى نفوس الناس، وتأييد العدل وتحسينه. والبعد الثالث هو التطبيق العملي على إنكار الظلم، وإقامة العدل وإصلاح الأرض.

ولذلك كان دور الإمام علي بن الحسين مركز على هذه الأبعاد كمتمم لرسالة والده الحسين . فعمل الإمام الحسين على تعريف الحقوق في رسالته «رسالة الحقوق». فمن أسباب الظلم أحياناً هو عدم معرفة الناس بالحقوق، فهم قد لا يرون الظلم ظلماً. ولعل هذا مما أبتلي به الإمام الحسين هو عدم معرفة الناس بالحق، وأين يجب أن يكون. بل إن كثير من المظالم تحدث إما لأن المظلوم لا يعرف حقوقه بالدرجة الأولى، فهو لا يعلم أنه ظلم، فضلاً عن أن ينكر ذلك الظلم.

أو أن الناس لا تعرف الحقوق، فينكرون على المظلوم الدفاع عن حقوقه ومطالبته بحقوقه، فيكونون في صف الظالم على المظلوم. وحتى اليوم نجد من ينكر على الإمام الحسين خروجه على يزيد جهلاً بحق الإمام الحسين وقضيته ومظلوميته.

أو أن الظالم نفسه لا يعرف حقوقه وحقوق الآخرين، فلا يعلم أنه يغتصب حقوق الآخرين، أو أنه يظلمهم، بل إنه قد لا يرى أي ظلم في أخذه حقوق الآخرين الذين لا يستطيعون الدفع عن أنفسهم كالأيتام والنساء. لذلك فإن دور الإمام علي بن الحسين كان بارزاً في نشر ثقافة الحقوق.

والبعد الآخر في رسالة الإمام علي بن الحسين في نصرة والده هو إنكار الظلم ورفضه. فقد أنكر الإمام زين العابدين على يزيد ظلمه في مجلسه وبين جلاوزته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن إحياءه للبكاء على والده، وعزاءه هو من أشكال رفض الظلم وإنكاره، ونصرة المظلوم. فكان الإمام زين العابدين من البكائين الخمسة، وقضى حياته بكاءاً على الحسين إحياءاً لمظلوميته، واستنهاضاً للوجدان البشري، وإنارةً للوعي الإنساني.

القرآن وإحياء المظلومية

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ «4» النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ «5» إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ «6» وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ «7» وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ سورة البروج.

لقد أحيا القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود، وجعلها خالدة مدى الدهر، بل جعل ذكرها في القرآن عبادة وموعظة، ولم يهملها ويجعلها تنسى وتضمحل، ذلك ليس فقط لمظلومية أصحاب الأخدود وفضاعة قتلهم، بل أيضاً عدالة قضيتهم. فهم لم يقتلوا إلا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، ولم يتنازلوا عن إيمانهم حتى لو كان مصيرهم الحرق والقتل في الأخدود. فذكر القرآن لقصة أصحاب الأخدود هو لنصرة قضيتهم، ولإصلاح ضمير العالم ووعيهم. فمن الخطأ أن يقتل الإنسان بسبب عقيدته. فالقرآن نصر أصحاب الأخدود إعلامياً، وأظهر مظلوميتهم بشكل واضح، والقيم التي جاهدوا وضحوا من أجلها، ولم يهمل قضيتهم ليظهرها الظالمون بالطريقة التي يشاؤون، فيطمسون آثارهم، ويدرسون قيمهم.

وإذا كان أصحاب الأخدود هزموا عسكرياً بشكل مطلق، فإنهم إنتصروا إعلامياً بفضل إحياء القرآن لقصتهم بشكل مطلق، وانتصرت قيمهم وارتفع ذكرهم. وكذلك فإن الإمام الحسين وأصحابه، وإن هزموا عسكرياً، فإنهم إنتصروا وينتصرون إعلامياً وعالمياً. فإنه لا يؤيد يزيد إلا من في قلبه مرض، أو أن ظمائرهم تلوثت بحب الدنيا، وأصبحت قلوبهم والقيم التي يؤمنون بها هي نفسها قلوب وقيم الظالمين، لذلك لا غرابة إن حشروا معهم.

إن الظالمين بقدر حرصهم على تصفية أصحاب الحق جسدياً، فإنهم أحرص على تصفيتهم إعلامياً. لذلك يزيد أراد تصفية الإمام الحسين بشكل مدسوس حيث أرسل 30 رجل مسلح لقتله في الحج، ولم يرسل فرقة بشكل علني. ولكن من شدة خوفه من الإمام الحسين بعد خروجه إلى العراق، تحرك بشكل علني، ولكنه أعلن أنهم خوارج ولم يعلن أنهم ذرية رسول الله. لذلك كان دور السيدة زينب والإمام السجاد محورياً في إظهار مظلومية الإمام الحسين ونصرته إعلامياً.

﴿لَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ سورة هود.

كاتب من المدينة المنورة