آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 11:51 ص

إضاءة «1» على محاضرة: خطاب العقلانية عند أهل البيت (ع) لسماحة الشيخ عبدالجليل البن سعد

مؤيد علي البراهيم

- جرت العادة من الخطباء في عاشوراء الحسين في الفترة المتأخرة أن يتم ذكر العناوين التي سوف يتناولها هذا الخطيب أو ذاك، وذلك في حقيقته يبرز أمرًا لدى القارئ والمتلقي، وهو كشف جوانب الإضاءة لدى الخطيب من خلال المحاور المذكورة والتعرف على نمط التفكير الذي من خلاله يتم قراءة الواقع وكيفية التعاطي السليم مع العوارض المتشكلة فيه.

وهي من الإستنانات الحسنة التي تتكفل مع تنوعها بردم الهوة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأسرية، وبهذا يتشكل لدينا حالة من التكامل التي تدفع عجلة الوعي الاجتماعي والإنساني إلى مساره الطبيعي، لا سيما في العصر الراهن التي باتت الإشكالات والإشكاليات تنهال على الفرد بشكل متسارع وعلى هيئة وجبات سريعة ومعلبة لا تحمل معها الكثير من العناء، غير أن رفعها يحتاج إلى بسط في البيان من جهة واختيار الاسلوب الأمثل في إيصاله للأفهام المتباينة والمتعددة.

وهذا بدوره يلقي عبء كبير على الخطيب، لا سيما في المسائل المفصلية التي تكون مركزًا لكثير من الالتباسات ويحتاج أن يتخطى حجب العوارض المتولدة عنها لكي يصل إلى لب الفكرة الأساسية ويحللها إلى عناصرها الأولية، وعلاوة على ذلك فإنه من الشرائط اللازم توافرها في الخطيب الحذق «الاقتدار والقدرة» ونعني بهما أن يكون مقتدرًا من الناحية المعرفية ومتسلط على جملة من العلوم العاضدة له في هذا السير كما أن المقصود من القدرة: هي التمكن من رصد الثغرات أو الاشتباهات الموجودة في الإشكال لمعرفة مواطن الخلل وعلاجها بما يتوائم معها.

فالعقلانية الكونية التي تطرق لها سماحته هي من ذلك النوع المعقد الذي جرَّ ورائه الكثير من الادعاءات والانقسامات وعليه يحتاج أن نستبين طريق الهدى من طريق الضلال في تمحيص تلك الدعاوى المذكورة، فالعلمانية مثلاً تجر النار إلى قرصها بادعاء العقلانية وهكذا الحال مع الحداثة، ومن هنا لمعرفة مدى قرب المدعي من الدعوى كان لزاماً بيان التعاريف العامة للعقلانية مع تحفظه على تلك التعريفات التي هي في حقيقتها كما قال أنها تلميحات متولدة من زوايا متعددة يُعنى بها كل من جهته، فلا تصادم بينها ولا تعارض.

وقد عرفت العقلانية بأنها: اسلوب في التفكير والتفلسف يقوم على العقل وهي تعني قدرة الإنسان في حياته اليومية وممارسته المعرفية على المحاكمة الواعية بعيدا عن العواطف والمشاعر.

كما أنه عرف ب: العقلانية بمعنى اخضاع كل شيء لقدرة العقل التي هي بحث دؤوب عن الأسباب والعلل.

فقد نرى في الفترة الراهن ما يعبر عنه بالتفكير بالصوت المرتفع والمطالبات الحثيثة بعقلنة الخطابات الإسلامية أو أن أفكارها لابد أن تكون متعقلة ليتم القبول بها وأن تجانف الخرافة، ومثل القارئ يعي جملة الاتهامات التي ألصقت بالفكر الإسلامي والعمد على تشويهه وإضعافه من خلال وصمه بالافتقار للعقلانية وهكذا كان الحال في إجراء المقارنات بينه وبين الخطابات الأخرى.

ومن هنا نرى أن السمة البارزة في هذه المحاضرة هي - خلق ورسم منهجية واضحة المعالم في كيفية التعامل مع هكذا أطروحات لا أنها تركن إلى حشد أكبر قدر ممكن من المعلومات فحسب فضلاً عن انتزاع الاعترافات بالعقلانية من الاطراف المناوئة والمخالفة، وهذا الأمر ما يسد الباب على التهمة الجاهزة التي يُرمى بها الشخص الذائد عن متبنياته الفكرية ألا وهي «الأدلجة» وأنه قد انطلق من دوافعه العقدية فهذا ما لا يمكن أخذه على المحاضر وهي نقطة امتياز تسجل.

ويمكن لنا أن نبرهن على ذلك من خلال المدعى الذي قاله المحاضر في حق أهل البيت - ع - بأنهم «ملوك العقلانية» بعد إثبات ذلك من خلال مقاييسه الثلاثة وهي على النحو التالي:

1 - المقياس أو الشاهد الأثري «أي الرواية» وحديثه المنقول عن الكافي / العقل والجهل، والدائر بين هشام بن الحكم والإمام الكاظم - ع - والمفاد فيه هو تحفيز التعقل من خلال ذكر الآيات، وعدم التوقف على الجزئيات المذكورة في هذه الآيات لمحاولة وصم القرآن بالتاريخية من خلال أمثاله، بينما تخطى ذلك إلى وجود قاعدة تأصيلية وقوانين علمية، كما أنه ذكر رؤية «السيد الصدر وديفيد هيوم وملكيان» يمكن للقارئ للرجوع للمحاضرة للوقوف على التفاصيل المذكورة في هذا الشأن والاستزادة..

2 - المقياس التاريخي وما كان عند أهل البيت هو الذي مثّل المنبع للعقلانية بحيث لا تجد عجلة من عجلات العقلانية تدور في التاريخ الإسلامي إلا وقد بدأت من نقطة أهل البيت .

- وأن محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي يقول «إن بعض الباحثين رأوا ان الترجمة بحد ذاتها وخصوصاً الفلسفة اليونانية...» وكما تعلمون ان الترجمة دخلت العالم الإسلامي في وقت مبكر في عهد الأئمة - ع - لم تكن الدولة العباسية تطمع في الفلسفة اليونانية وإنما جاءت ردة فعل عن سيطرة الثقافة لمقولات التشيع، وقد رأت الخلافة العباسية المتمثلة بالمأمون أن تواجه مدرسة أهل البيت وتنافسها بالفلسفة اليونانية وذلك يعني أن العقلانية كانت صبغة واضحة على مدرسة أهل البيت وأنها كانت عنصر جذب لأهل البيت - ع -

3 - مقياس التماهي وهو أن تجد عند فلاسفة اليوم ما هو عند أهل البيت - ع - في الزمن الأول.

وعليه نستطيع القول بأن الإضاءات الموجودة في المحاضرة تمتاز بعدة عناصر وهي:

- عدم الاكتفاء بسرد المعلومات وحشدها التي تكون ذات مفعول آني ولا تتخطى حدود الإشكال الواحد، بينما قام بتشييد منهجية واضحة المعالم ومحكمة في عملية رد الإشكالات التي هي من هذا النوع وأن اختلفت هيئتها.

- سبر أغوار النصوص الروائية بتسليط الضوء عليها بنظرة ورؤية تحليلية متفحصة لنستل منها المكنون خلف السطور وإبرازها كجوانب مشعة في خطابات المعصومين - ع - صالحة لرد الشبهات وإن تقادم عليها الزمان واختلف عنها المكان.

- بيان أصالة الجانب العقلاني في مملكة أهل البيت - ع - وأن ما دون ذلك فهو دخيل يراد من ورائه ما يراد.

- عدم فسحة المجال للنقض على الشواهد المذكورة إذ أنها تشكل أرضية راسخة ومتفق عليها بين المؤالف والمخالف، بعيدًا عن أرضية الرمال المتحركة في سوق الاستشهادات وأحادية جانبها.