آخر تحديث: 25 / 11 / 2024م - 12:28 م

إن كنت مشفقة علي دعيني «2»

سلمان محمد العيد

اللوحة الثالثة «تضحيات الحسين»:

في هذه اللوحة يقرر الشاعر بأن الحسين لم يقدم على ما أقدم عليه إلا من أجل الإسلام فقد ضحى بكل ما ملكت يداه، من مال وولد وروح وجسد.. ما يؤكد مبدئية الثورة الحسينية، وبعدها عن المصالح الشخصية، فالحسين ثار لأجل الدين، وقدم كل التضحيات من أجل المبدأ والعدالة والحرية، ومن أجل ذلك تحمّل كل شيء.

تقول هذه اللوحة، في مشهدها الأول:

 يا بيضة الإسلام انت حريّة ***** بعد الحسين بصفقة المغبون

وفي هذا البيت ثلاثة اسئلة:

 لماذا قال ”بيضة الإسلام“؟

 لماذا عبر بكلمة ”حريّة“؟

 لماذا قال ”صفقة المغبون“؟

 فمن الناحية اللغوية فإن ب ”بيضة الشيء“ أصله، و”بيضة الاسلام“ هو كيان الإسلام، و”بيضة البلد“ عبارة تطلق على الشخص الذي يعرف بالسيادة، والزعامة، فقد ورد أن أخت عمرو بن ود حينما رأت جسد أخيها، وعرفت أن قاتله هو علي بن أبي طالب ، قالت: ”لو كان قاتل عمرو غير قاتله، لصرت أبكي عليه سالف الأبد، لكن قاتله من كان والده ببطن مكة يدعى بيضة البلد“، وتعني بذلك ابو طالب، الذي كان زعيما في قومه،.

ويقصد بكلمة ”حريّة“، الجدارة والأولوية.

وأما صفقة المغبون، يعنى بها صفقة المغرر به، في اشارة الى خيار الغبن، وهو أحد الخيارات التي تتيح للمكلف بأن يفسخ عقده إذا تبين له أنه مغبون في صفقته، بمعنى أنه اشترى سلعة بسعر أعلى من قيمتها الحقيقية.. فالشاعر يقرّر بصيغة مباشرة وصريحة، بأن الخاسر الأهم بفقدان الحسين أو موته، هو بيضة الاسلام وأساسه وأصوله، ما يؤكد بأن الحسين يمثل هذا الاساس وهذه الحقيقة، بمعنى أن للإسلام أسسا وصورا، فقد يظهر بصور لا تعبر عن الأساس وعن الحقيقة، وقد يأتي بصورة أخرى مغايرة، فالحسين لم يكن يعني بثورته إصلاح القشور والأسماء وإنما توجه نحو الجذور والأسس، أي ان هذه الجذور بدون الحسين في موقع الخسارة لذلك فهو ممثل لتلك الجذور، وقتله خسارة للجذور، التي تتقوم ببقاء الحسين، أي أن الحسين لم يكن ثائرا لشيء غير اساسي في الدين، أو هامشي في الاسلام كالوضوء والغسل والصلاة والصوم فقط، وإنما ثار من أجل بيضة الإسلام، أي المعنى الحقيقي لكل هذه الطقوس، وهي عبادة الله وإخلاص الدين له.

وحينما قرر الشاعر أن بيضة الإسلام خاسرة، لم يقلها بصورة مباشرة وإنما بصيغة الكناية وهي ”صفقة المغبون“، التي بها شيء من الغرر، فالغبن  كما هو معلوم  هو خلاف العدل، بمعنى أن الأمة بعد الحسين تسير في ركب الظلم والخسارة، والصفقة التي هي عملية تبادل بين طرفين، ويفترض فيها العدل، وفي حال حدث الغبن يتاح الخيار للطرف المغبون بإلغاء الصفقة، بالتالي فإن الحسين يقف مقابل الظلم الذي هو خلاف العدل، وهذا يعني أن أساس الاسلام الذي يمثله الحسين، وان الاسلام الذي يحمله الحسين، سوف يكون نهبة للظلم، والغش «والغبن نوع من أنواع الغش».

بناء على ذلك يمكن القول بأن الشاعر أراد إيصال المعنى، مستفيدا من ثقافته اللغوية فقال: ”بيضة الإسلام، وحريّة“، ومن موقعه كرجل دين على اطلاع تام بالمسائل الفقهية فأورد عبارة ”صفقة المغبون“، التي تتيح لصاحبها الخيار في الفسخ، وذلك بحث مطوّل في قسم الخيارات في باب المعاملات،.

وهناك لفتة أخيرة يمكن أن نصل لها بعد عملية قلب الصورة، أو الحديث ب ”مفهوم المقابلة“، فما دامت بيضة الاسلام خاسرة بعد الحسين، فإنها سوف تكون محفوظة ورابحة وقائمة بوجود الحسين.. وربما أثارت هذه النقطة جدلا ثقافيا وتاريخيا واسعا، يؤكد بأن الحسين بعد أن قطع جسده ورفع رأسه وسبيت اسرته ونهب ماله، بقي نهجا ومبدءا فبقيت اصول الاسلام وبيضته.. ولكن في حال ذهب الحسين «جسدا ونهجا» فإن بيضة الاسلام جديرة بصفقة المغبون

أما المشهد الثاني فتقول اللوحة:

أعطى الذي ملكت يداه إلهه ***** حتى الجنين فداه كل جنين

في يوم ألقى للمهالك نفسه ***** كيما تكون وقاية للدين

فالحسين من أجل الدين، ومن أجل الله، ومن اجل المباديء التي يمثلها الإسلام قدّم كل شيء، ”حتى الجنين فداه كل جنين“، وهنا إشارة إلى الحدث التاريخي، حيث قتل بنو امية بعض الأطفال وأبرزهم ”عبد الله بن الحسين“، الذي قتل على صدر أبيه، كما أن إحدى نساء الحسين وضعت له رضيعا يوم عاشوراء، وقد شاء أن يلثمه فسبقه سهم من سهام الأعداء نقله الى العالم الآخر.. وقد توج كل ذلك بأن قدم نفسه للمهالك كيما تكون وقاية للدين.

وفي هذا الأمر نكتة دقيقة يوردها الشاعر ففي البيت الأول قال: ”إلهه“ وفي البيت الثاني قال: ”الدين“، ليدلل على أن الحسين دافع عن الدين، وأهلك نفسه، ولكن ذلك بإخلاص لله، إذ قد يحدث أن شخصا يقاتل وقد يدافع عن الدين ولكن ليس لله جل شأنه، وهناك قصص تاريخية تؤكد أن أشخاصا دافعوا عن الدين وقتلوا ولكن هدفهم ليس رضا الله، وإنما الحصول على الغنائم، حتى أن البعض ممن قتل في معركة بدر الخالجة قد وصفه الرسول ﷺ ب ”شهيد الحمار“، فهو قد قاتل وقتل من أجل الحصول على الحمار، بينما الحسين ”اعطي الذي ملكت يداه الهه“، وقدم كل شيء وقاية لـ ”الدين“.

اما المشهد الثالث فيقول الشاعر على لسان الحسين:

وبيوم قال لنفسه من بعدما ***** أدى بها حق المعالي بيني

أعطيت ربي موثقا لا ينقضي ***** إلا بقتلي فاصعدي وذريني

إن كان دين محمد لم يستقم ***** إلا بقتلي يا سيوف خذيني

هذا دمي فلترو صادية الظبا ***** منه وهذا للرماح وتيني

خذها إليك هدية ترضى بها ***** يا رب انت وليها من دوني

أنفقت نفسي في رضاك ولا أرا ***** ني فاعلا شيئا وأنت معيني

ما كان قربان الخليل نظير ما ***** قربته كلا ولا ذا النون

هذي رجالي في رضاك ذبائح ***** ما بين منحور وبين طعين

رأسي وأرؤس أسرتي مع نسوتي ***** تهدى لرجس في الضلال مبين

في هذه الأبيات التي تمثل المشهد الثالث يعرض الشاعر تضحيات الحسين في كربلاء، ولكن هذا العرض تم بصورة إجمالية، دون تفاصيل، ثم ينتقل الى التفصيل فيما بعد، وتم العرض على لسان الحسين نفسه، وهنا الصورة الفنية الرائعة في هذا المقطع، وفي هذا المشهد يؤكد الشاعر «على لسان الحسين» على أن هذه التضحيات لم تأت الا لله ومن اجل الدين

 ففي البداية يؤكد الشاعر على أن الحسين، وبعد ارتقائه سلم المعالي، وارتفاع مقامه المعنوي، قال لنفسه: ”بيني“ أي أرحلي، فأنا مقيد بميثاق مع الله، هذا الميثاق لا يتم إلا بقتلي وصعود روحي، فاتركيني يانفس.. فهنا خطاب من الحسين مع نفسه، دعاها لأن تصعد إلى بارئها.. فالموقف الذي بلغه الحسين ليس بمقدور أحد أن يأخذه، لأن من يحمل المعالي هو الذي يتحرر من نفسه، ويقدمها طعمة للسيوف والرماح.

 والخطاب الثاني توجه فيه الإمام  بلسان الحال  الى السيوف والخناجر والرماح بأن تأخذه مادام ذلك لصالح الدين، واستقامته، فإذا توقف بقاء الدين على قتلي فأنا على اتم الاستعداد.. واللمحة الفنية هنا تظهر بأن الامام يخاطب وسائل القتل تارة بالطريقة المباشرة، وبالأمر المباشر «يا سيوف خذيني»، وتارة بطريقة غير مباشرة فلم يقل للظبا «حد الخناجر» والرماح بأن اقتليني وخذيني كما دعاها في البيت السابق، لكنه هنا يقول لها بصيغة لام الأمر «فلترو»، وأن دمه متاح لحد السيوف والخناجر، وأن وتينه متاح للرماح، ولكن النتيجة واحدة.. هنا تنوع في وسائل العرض والتصوير، بالأمر وبالمضارع.. وما أروع التصوير الفني بأن الحسين الشهيد الحي يخاطب السيوف والرماح بأن تقطع جسده، لا استسلاما ولا قبولا بواقع فاسد، وإنما هي إرادة الله.. وهنا نقطة أخرى يجمع الحسين فيها بين السلوك والعقيدة، فهو ينطلق من تلك العقيدة، ما أعذب وأجمل هذه الصورة حين يتخاطب البطل الضحية «الحسين» مع وسائل القتل وبكل شجاعة يرحب بها.

 اما الخطاب الثالث فهو للمولى جل شأنه، ويقول لله بأنه أعطى كل شيء قدمه ”هدية“ الهدف منها رضا الله، فهو الولي والمعين، لكنه في الوقت نفسه يقول بأن هذه الهدايا والتضحيات لا تقاس ما قدمه النبي ابراهيم «الخليل» الذي طلب منه المولى قتل ابنه، فاستبدله بذبح عظيم، ولا ذا النون «يونس» الذي ابتلعه الحوت، ثم استجاب دعاءه فأنقذه من البقاء في بطن الحوت، فهل تقارن هذه التضحيات بما قدمه الحسين في سبيل هذا الدين، فقد قدم نفسه، ثم رجاله، وبعدها أخذ رأسه ورأس اصحابه ونسوته هدية الى يزيد، كما أن الخليل لم يقتل فلذة كبده، وذا النون لم يلبث في بطن الحوت، بل عاد كل منهما على حياته الطبيعية، بينما الحسين قتل ومزق جسده، وسبيت عياله، وقبل ذلك وجد فلذات أكباده ضحايا مجزرين على تلعات كربلاء، فهل هناك وجه للمقارنة؟

 ويواصل الشاعر عرض حوادث كربلاء، لكنه يزداد تألقا في وصف التفاصيل، التي جاء بها على لسان الحسين ، لكنه هنا يصف المستقبل بصيغة الثبات والتقرير والمضي، أي أن الحسين  وهو شهيد  يعرض ما جرى عليه الى ربه جل شأنه.. فالشاعر بات يتحدث عن الآخرة، ويدخل في حوار بين الأمام وبين المولى جل شأنه، ويسرد تفاصل الجريمة، ليقول:

وإليك أشكو خالقي من عصبة ***** جهلوا مقامي بعدما عرفوني

جعلوا عظامي موطئا لخيولهم ***** يا رب ما ذنب به أخذوني

ماء الفرات محلل لكلابهم ***** وأنا الذي من ورده منعوني

ميراث جدي خالص لي دونهم ***** ما بالهم عن إرثه طردوني

أوصى نبيك قومه في آله ***** وأنا ابنه حقا وما حفظوني

في هذا المقطع تجد أن الحسين يؤكد تضحياته في سبيل الدين، لكنه  في الوقت نفسه  يشكو الى الله الجريمة التي وقعت بحقه، والتي تمثّلت في تجاهل القوم لموقعه وقيمته الدينية والاجتماعية والتي يمكن تفصيلها في بعض النقاط:

1 - الجريمة تمت عن وعي ومعرفة بموقع ومقامه، فلم تتم عن جهل القاصرين، وإنما عن جهل المقصرين، أي أنهم قتلوا الحسين وهم يعرفونه حق المعرفة.

2 - الجريمة التي ارتكبت بحقه كانت تتسم بالشناعة والفضاعة، لدرجة أن ارخص شيء في هذه الحياة منعت عن الحسين وهو الماء، الذي يباح إلى كل أحد حتى الكلاب والخنازير

3 - وأن المجرمين لم يكتفوا بقتل الحسين بدون ذنب، وإنما بالغوا في جرمهم، بأن جعلوا جسد الحسين تحت الخيول، أي أنهم قتلوه ورضوا جسده، وهذا افضع انواع الجرائم الانسانية التي تتوجه صوب الجسد بعد الذبح.

4 - ارتكبوا الجريمة، وهم يعلمون ان الحسين هو ابن نبيهم ورسول الله فيهم، وهذا يعطي صورة أخرى على أن هؤلاء متمردون ضد رموزهم الذين بهم يفخرون أمام الأمم.

اللوحة الرابعة «المناجاة»:

في هذه اللوحة يواصل الشاعر عرض مناجاة الحسين لله جل شأنه، فبعد أن عرض ظلامته بشكل مجمل، وقام بعرضها بالتفصيل، ليخلص إلى القول بأنه قد أدى ما عليه من أمانة تجاه الدين والأمة، ولم يبق له من الدنيا إلا ابنه العليل الذي كلفه بمواصلة المسيرة وأداء المسؤولية.. وإنه وبعد كل ذلك ينتظر من الله جل شأنه  وحسب الشاعر  الرضا أولا، والأخذ بالثأر من الظالمين ثانيا.. فالله القوي الجبار الذي لا تضيع لدي الحقوق ولا الودائع.. هنا يقول الشاعر على لسان الحسين:

هذا وقد كنت الرقيب عليهم ***** يؤذيك ما من فعلهم يؤذيني

أي أنك يا إله الكون شهدت ما فعلوا، ولم يكن فعلهم بالغريب عليك، وليس بخاف على عظمتك يا مولاي.. وهنا يتجسد في هذا البيت تسليم الحسين لله، والثقة برحمته، فالله جل شأنه رحيم رؤوف لا يقبل بأن يظلم أحد من عباده، فما بالك بمن كان من أخلص العابدين له جل شأنه، وهو الحسين ، وتظهر من هذا البيت حقيقة القدرة الإلهية، والغضب والرحمة الربانية، فمن ناحية القدرة فالله جل شأنه يرى كافة أفعال العباد الحسنة والسيئة، فيعذب من يشاء ويعفو عمن يشاء، لذلك فهو الرقيب على كل ما جرى في كربلاء، وأما الرحمة والغضب فقد بلغت أنه جل شأنه يتأثر بما يجري من ظلم على عباده، ويتأذى من هذا الظلم، ولا مناص من أن يحكم عدله في كل من ظلم.. ولذا يقول الحسين   بلسان الحال :

خذ لي بثأري وانتقم لي منهم ***** أنا عبدك القن الذي ظلموني

وهذا الثأر والانتقام بحق من قاموا بالظلم تجاه واحد من عبيدك المقربين لك، والمسلّمين لإرادتك.. وعبر الشاعر بكلمة ”القِنُّ“ وهو العَبْدُ الذى كان أَبوه مملوكًا لمواليه، في إشارة الى ان الحسين ووالديه مملوكين لله جل شأنه، ومن يكن كذلك فلا يظلم بحضرة مولاه.. وهنا شرف القرب من الله والتذلل له، إذ يقول أن عبدك وبن عبدك وبن امتك، ظلمت من عصابة من أمتك، فخذ بثاري وانتقم لي منهم.

ثم ينتقل الى عرض ما تبقى من مناجاة لله جل شأنه ليقول:

لم يبق لي شيء أعد نفيسه ***** لرضاك إلا وارثي واميني

هذا عليلي لا يطيق تحركا ***** لو يستطيع بنفسه يفديني

أبقيته ليكون بعدي موضحا ***** للناس غامض سرك المكنون

هذي أمانة أحمد أديتها ***** فاشهد علي بها وأنت أميني

فالحسين بهذا الأبيات  وبدون منة على المولى  يقول لله أن الأمانة قد أداها، والشاهد على كل ذلك هو السميع البصير، ولم يبق له شيء يقدمه ليحقق رضا الله سوى وارثه في المسؤولية وهو الامام زين العابدين، الذي لولا العلة التي اصابته لكان ضمن الشهداء الضحايا في سبيل الله، ولكن شاءت القدرة بأن يبقى ليكون بالمسؤولية بطريق آخر، وووسيلة اخرى.

وبناء على كل ذلك، نخلص بمجموعة نتائج هامة في هذا اللوحة الرائعة:

1 - إن ما قام به بنو أميه هو فعل بعيد عن الدين الاسلامي، والشرع الإلهي، بل أنه مثار غضب الله، فلا معنى لشعاراتهم ورفعهم اسم الله بعد عملية القتل.

2 - إن الإنسان المظلوم، مهما تبلغ ظلامته فلا يشكو الثأر والانتقام إلا من الله جل شأنه، فهو القادر على كل شيء.

3 - إن مناجاة الله، وطلب ثوابه، وطلب الانتقام من الظالمين هو زاد حاملي الرسالة السماوية

4  - الثورة الحسينية تحملها الحسين أولا، وواصل مسيرتها وشرح بعض مبادئها الأمام السجاد، لأنها رسالة إلهية مستمرة غير مرتبطة بشخص واحد، بل يتبناه بطل عظيم مثل الحسين وتنتهي المهمة، ليأتي عظيم آخر ليواصل المسيرة.

اللوحة الخامسة والأخيرة:

نعود إلى اللقطة الأخيرة من هذه القصيدة الرائعة المليئة بالمعاني، فبعد أن يعرض مناجاة الحسين مع الله جل شأنه، وشكواه مما نابه من ظلم وجور واعتداء وسبي لأهله وعياله، يعود ويؤكد بأن مأساة كربلاء حاضرة في ذهنه وقلبه وروحة لا تنقضي بفعل عوامل الزمن، لأنه ينطلق من مبدأ محبة اهل البيت، ويطلب بذلك ثواب الله وإن كانت ذنوبه وآثامه كثيرة.. ويطلب من الله ايضا ان يحقق نصره لدين الاسلام.

وسار في هذا المنحى من خلال عدة مواقف:

الموقف الأول: خاطب الإمام المهدي «عجل الله فرجه»، ويدعوه لأن يتوثب ويخرج من غيبته قائلا:

 يا أيها الملك المحجب وثبة ***** يعنو لها بالذل كل حرون

 أترى سواك اليوم راتق فتقها ***** هيهات ليس سواك بالمأمون

فيدعوه الشاعر بأن يطلق الوثبة وهي الثورة، تزيل الضعف عن كل من يحمل بذرة الحرية في ذاته،

وفي هذا البيت صورة فنية جميلة، تتأكد إذا وقفنا على المعاني اللغوية لبعض كلمات هذا البيت، فالمحجب هو الغائب، والوثبة هي القفزة والنهضة، وفعل يعنو يقصد به من يولي الأمر اهتمامه ويبذل جهدا من أجل ذلك، والحرون هو الحر الجموح، والذل هنا يقصد به  كما أظن  الضعف.. بالتالي فالوثبة المطلوبة هي التي تثير الحمية لدى الأحرار، او من يحملون قابلية الجموح والنهضة والتمرد على الباطل.. ولا يقوم بهذه الوثبة الا صاحبها فهو راتق «مصلح» الفتق «الخلل»، وليس سواه من يتحمل هذه المسؤولية الكبيرة.. فالثورة التي يدعو لها هي التي تثير الحمية في النفوس، وتنطلق الجماهير منها، أي ان الثورة  حسب هذا البيت  لا تقوم بها القيادة الثورية وحدها، وإنما هي تثير الاحرار.. فالحسين ذهب بجريمة شبهها الشاعر بسحابة سوداء، مستمرة لأزمنة طويلة، ومستمرة، ولا حل لهذه الظلمة الا ضوء نهضة صاحب الزمان، وهنا يشير الشاعر إلى ان ثورة الحسين لكل الأزمنة، فقد:

 ذهب الحسين بطخية لم تنكشف ***** إلا بضوء حسامك المسنون

ولم يتوقف عن عرض المزيد من عرض مأساة الحسين ، والتي تتجسد فيها أيضا لعظمته، وقربه من الله، فهو الذي:

 خشعت له حتى السباع قلوبها ***** وترقرقت حتى عيون العين

فالسباع الضارية خشعت قلوبها لما رأت من هول المصاب، حتى قيل ان السباع هي التي قام بالتظليل على جسد الحسين عن حرارة الشمس، وكذلك سالت دموع عيون العين  بكسر العين  ويقصد به كبار القوم، وفي معنى آخر أن العين من الرجال هم سريعو البكاء.

ويلفت الشاعر إلى مفارقة، لم يدخل في تفاصيلها، فالاله جل شأنه غضب لعقر ناقة صالح، فأذاقهم العذاب الشديد، ولا تقارن هذه الناقة بعبدالله الرضيع، الذي ذبح على صدر والده، وقال:

 غضب ألإله لعقر ناقة صالح ***** حتى أذاقهم عذاب الهون

 وإبن النبي رضيعه في حجره ***** رضع السهام بنحره المطعون

فلم يقرر النتيجة، وماذا جرى من غضب إلهي على الأمة التي قتلت الحسين، لأن الاجابة واضحة، ومقررة سلفا، فإذا كان الله جل شأنه قد غضب لناقة، الا يغضب لطفل الحسين.

الموقف الثاني:

ذهب الشاعر ليتحدث عن نفسه، ويعلن ولاءه للحسين، طالبا من الله ان يتقبل منه القليل من العمل:

فيقول:

 ولقد خشيت بأن تزور منيتي ***** قبل انتصاركم بني ياسين

 لا خير في عمر الفتى ما لم يكن ***** يفنى بنصرة صاحب وخدين

 هي بغية لو أنني أدركتها ***** لعلمت أني لست بالمغبون

فيعلن الشاعر عن أن ثمة املا عريضا يتطلع إليه وهي نصرة اهل البيت، أو يرى انتصارهم على اعدائهم، مؤكدا بأن كان يخشى أن يأتيه الموت قبل أن يرى ذلك الانتصار لآل ياسين، مؤكدا بان العمر لا خير فيه اذا لم يكن صاحبه ذا فضل ويحمل موقفا يخدم من خلاله المجتمع والأمة.. ويؤكد أن الربح يكمن في هذا الدور وليس في أي دور آخر.

ومن أجل هذا الهدف يقرر شاعرنا الفذ بأن عدم خسارته تكمن في كونه متعلقا بمرابع كربلاء، وأنه يحمل نيبة اصحاب الحسين في نصرة الحق ورفض الظلم ومقاومته. فيقول، بأن مرابع كربلاء باقية لدي مع الزمن، فهي روضة غناء امطرت بدم الأحبة لا بماء السحب الجون، وهي السوداء المحمرّة، فما انبتت إلا بدورا تبتهج بهم كما تبتهج الاراضي الخضراء بورد النسرين العطري قوي الرائحة ذي اللون الأبيض.

فيشبه مرابع أو مناطق كربلاء بأنه حديقة غناء مخضرة، لكن مطرها غير المطر الطبيعي، فمطرها دم، ونباتها بدور زاهية البياض، مثل النسرين في الأرض الغناء، فالشاعر ينتنقل من الارض الى السماء ويعود الى الارض. لكنه في الوقت نفسه يقرر بأن تلك البدور تحمل في ذاتها صفة الشجاعة والصمود والتضحية، ولهم قصب السبق في طريق التضحية، الذي يؤكد الشاعر بأنه يحمل مبدأهم ويسير بنيتهم:

 هيهات ذكرك يا مرابع كربلا ***** بعد الزمان وقربه ينسيني

 ما أنت إلا روضة ممطورة ***** بدم ألأحبة لا السحاب الجون

 لا تنبتي إلا بدورا وإبهجي ***** بهم ابتهاج الروض بالنسرين

 جادوا لربهم بكل نفيسة ***** وفدوا إمامهم بكل ثمين

 ثبتوا لمقترع ألألوف حماية ***** عنه وما زادوا على السبعين

 لي مثل نيتهم ولكن القضا ***** والجد أخرني وهم سبقوني

الموقف الثالث:

عاد الشاعر الى نفسه، ليبدي رغبته في الوصول الى رضا الله جل شأنه، ولكن بوسيلة اهل البيت، الذين هم حصنه يوم القيامة تجاه الذنوب التي ارتكبها، ليصل الى النتيجة الحتمية وهي الاعتصام بولاء اهل البيت هو اعتصام بحبل الله المتين

 يا من بحبهم وبغض عدوهم ***** يوم القيامة في غد تحصيني

 أعيا الكرام الكاتبين توغلي ***** في الموبقات بكثرة التدوين

 ما قمت من ذنب أحاول توبة ***** إلا وقعت بمثله من حين

 مُنوا بلطفكم علي فإنني ***** عجزت بحمل صغارهن متوني

 إن كنتم لا تشفعون لغير ذي ***** ورع فمن للخاطئ المسكين

 من يعتصم بولائكم لم يعتصم ***** إلا بحبل للإله متين

الخلاصة من هذا المقطع اراد الشاعر القول بأن ثمة أمل يتحرك في داخله، هذا الأمل يأخذ مسارين الاول: هو الأمل في حصول انتصار الحق على الباطل، والثاني: الحصول على رضا وثوابه وغفران الذنوب.. وأن هذا الأمل يتجدد يوما بعد يوم، تشعله حادثة كربلاء الذي لن ينساها مهما طال الزمان، لأن نيته مثل نية الحسين واصحابه وهي الموت في سبيل الله،