نحو مجتمع وفكر ديني يواكب العصر والتجديد
تغيرات الزمن وتطوراته في تسارع وتصاعد. ولا بد للإنسان من مواكبة هذه التطورات وتطويعها لما يناسب زمانه ومكانه مع الحفاظ على الهوية والمبادئ والقيم، وإلا وقع في حالة ارتباك حين يفرض الواقع نفسه عليه. هذا الأمر كما ينطبق على الفرد ينسحب على المجتمع، وكما هو مطلوب في العادات والتقاليد وأسلوب العيش، مطلوب كذلك في الفكر والفقه على حد سواء. هذه الزاوية يتناولها سماحة الشيخ بالتفصيل في محاضرته العاشورائية الثامنة لموسم عاشوراء 1440 هـ تحت عنوان: تجدد المجتمع.
نمط الحياة البشرية حافل بالتطورات والتغيرات. وبذلك يختلف الإنسان عن سائر الكائنات الحية. فالكائنات الحية الأخرى تتصف بالعيش على نسق واحد في طريقة حياتها. فالنحل مثلًا من 80 مليون سنة يعيش ويعمل بنفس الطريقة. أما الإنسان فطريقة حياته في تطور مستمر ومتصاعد. وكل ما مرّ به الزمن صارت وتيرة التغيير أسرع. كان يستخدم الجمال في تنقلاته يقطع 8 ميل في الساعة، ثم اخترع العربة بأربعة عجلات، ثم القطارات فالطائرات وانتهاء بكبسولات الفضاء 18000 ميل في الساعة.
هذا التطور المتصاعد ينعكس على أفكاره وعلاقاته مع الطبيعة. فكل اختراع يترك أثره. فالمصباح الكهربائي، وصولًا إلى الأجهزة الإلكترونية والهواتف النقالة. في هذا العام وصلت المطبوعات 1,864,604 كتاب. هذا الانفجار الهائل في المعلومات لا شك أنه يؤثر على الإنسان سلوكيًا واجتماعيًا.
هذه الآثار والتغيرات التي تطرأ على الحياة بفضل العلم والمعرفة من يستجيب لها ويتقبلها؟
مجتمعات حية. تستجيب استجابة واعية، تحافظ على قيمها ومبادئها، مع استيعابها للتغيرات والاستفادة مما يناسبها ويخدمها، مطوعة الأمور لصالحها. تنفتح على التطورات وتستفيد منها، فالتطور نتاج تراكمات وجهد الأمم السابقة. كانت الأمة الإسلامية حضارة رائدة والغرب يعترف بأنه أخذ الكثير منها. فهذا التطور ليس حكرًا على أحد، بل يستفيد منه جميع الشعوب، وينبغي أن تتفاعل معه وتتكيف معه، وتأخذ ما يناسبها مع الحفاظ على قيمها ومبادئها.
مجتمعات راكدة. تتخذ موقفًا سلبيًا من الجديد معتبرة إياه مصدر انحراف، ومخالف لعاداتها وطبائعها، ومميع لأبنائها. الجماعات الإسلامية اتخذت موقفًا ضد التعليم بحجة أنه يسير بهم نحو طريق الكفار، والتغريب، وللآن في نيجيريا حركة «بوكو حرام» أي التعليم حرام. حتى في مجتمعاتنا عانت الدولة كثيرًا لترسيخ تعليم البنات. وهكذا كان هناك رفض لاستخدام الهاتف، ومكبرات الصوت، والتلفزيون، حتى استخدام الدراجة «السيكل» ويعتبرونها حصان إبليس.
هذا الرفض لا يقتصر على الجماعات الإسلامية، حتى بعض متديني المسيحيين عندهم بعض هذه الأمور مثل طائفة الآمش في أمريكا، فهم يرفضون الاندماج في حياة الناس العامة، ويعيشون في الأرياف، يركبون الدواب ويرفضون السيارات، ويحرمون التصوير لأنه من دواعي الوثنية، يعملون في الزراعة والتجارة ويرفضون الوظائف الحكومية.
هكذا بعض المجتمعات ترفض التغيرات حتى يفرض التغيير نفسه عليه، عندها يقعون في أزمة وارتباك. حياتهم تغيرت وباتت في أحضان الحضارة والتطور، لكن فكرهم على ما هو عليه، فيرتبكون بين حياتهم الجديدة وفكرهم القديم.
الدين الإسلامي لا يقبل الجمود بل يحث على التقدم والتطور. ولهذا حث على العلم واكتساب المعرفة. فهو يختلف عن الكنيسة التي تحمل أفكارًا مقولبة عن الوجود تخالف العلم والعقل فاصطدمت مع الناس. بينما الإسلام يفسح المجال لمعرفة أسرار الكون واختراع أفضل النظم في الحياة الاجتماعية. والعبادات والنظم لا تتنافى مع تطور العلم، فما كان صالحًا في زمن ما، قد لا يصلح لزمن آخر.
لماذا نجبن من التغيير والروايات تبين أن لكل زمن سلوك؟ «لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». فلا ضير في التغيير إلى الأفضل حسب مقتضيات العصر: «خير لباس كل زمان لباس أهله». السيد الشيرازي في فقه النظافة وقد ورد الحث على أن تكون المعاشرة بآدابهم، فإذا تعارض فعل المستحب أو ترك المكروه مع ما هو المتعارف عند الناس قدم المتعارف، لأن دليل «فعاشر بآداب أربابها» مقدم على دليل فعل المستحب أو ترك المكروه.
عقلية التقيد بموروث الآباء والأجداد. كل جيل يرث أفكار الجيل الذي سبقه ويريد الحفاظ عليها، على قاعدة «إنا وجدنا آباءنا على أمة»، وهذه عقلية واجهها الأنبياء وأدانوها.
جمود الفهم الديني. يقف عند رأي ومستوى معين ولا يريد التغيير. الشهيد الصدر يتحدث عن النزعة الاستصحابية، منتقدًا فيه عدم الاستجابة للتطور، واستصحاب أفكار وطرق الأسلاف في طريقة التدريس والإدارة.
الدين يريد النهوض بالمجتمع، ولا يقبل حالة الركود والجمود. مسيرة الأديان الإلهية عبر تاريخ الأنبياء الدعوة إلى لله تعالى وتوحيده، لكن الشرائع كانت متغيرة «ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم». إلى أن جاءت الرسالة الخاتمة لنبينا ﷺ، وهي رسالة متجددة. فهناك آيات تنسخ آيات قبلها، وأحاديث لرسول الله ﷺ تتضمن قوله: «كنت قد أمرتكم» يعني أمر بشيء لفترة والآن تغير الحكم.
كما أن هناك تشريعات ثابتة، وأخرى تدبيرية. والتدبيرية قد تتغير حسب الزمان والمكان، وهذا دور الأئمة فهم ليسوا مجرد ناقلين عن النبي فحسب، بل لهم تشخيص الواقع وبيدهم التغيير. سئل الإمام علي عن الخضاب، وكان رسول الله ﷺ قد دعا إليه، فقال: «ذاك والإسلام قُل، أما الآن فامرئ وما اختار».
وبعد مرحلة المعصومين جاء دور الفقهاء. فالتشريعات ليست كلها ثابتة، ومهمة الفقيه فهم الواقع ليجتهد في إبداء الرأي حول المسائل التدبيرية حسب ما يقتضيه العصر. لكن المشكلة في عدم استجابة بعض الفقهاء للمتغيرات وجمودهم على المتعارف، وآخرون يبحثون المتغيرات ويجتهدون في فهم عمق المسألة. ويجددون في الفقه والفكر الديني. والمشكلة لها وجهان:
قصور أو تقصير في المؤسسة العلمية في مواكبة تطورات العصر وتجدد الفكر والتشريع الديني، باستخدام تأثيرات الزمان والمكان.
انعدام التفاعل بين العلماء والجمهور. في المؤسسة الدينية هناك منهجان: محافظ يعيش القلق على ما يصفه بتمييع المبادئ الدينية، وليس عندهم استجابة للتغيير. وآخر إصلاحي يريد أن يجدد ويواكب تغيرات الزمان والمكان. والمشكلة أن معظم المتدينين يخذلون العلماء والفقهاء الإصلاحيين، وينحازون للمحافظين، فيما يرونه احتياطًا لدينهم، وتجاوبًا مع عواطفهم الدينية والولائية.
لا يقتصر الأمر في التجديد على المسائل الدينية. بل حتى العادات الاجتماعية والأعراف والتقاليد بحاجة إلى تجديد لتلائم الزمان والمكان. لكن المشكلة تكمن في صعوبة التغيير وتقبل المجتمع. حتى في الأمور التي ترهقهم ويتذمرون منها، في مجال التطبيق، يقولون الناس تريد هكذا! لا أحد يريد أن يبدأ ويكون عرضة للنقد. هذا نجده في مناسبات الزواج، وحفلات الخطوبة، وكذلك الفواتح. تكاليف باهضه تصرف على هذه المناسبات وهي في تزايد، والناس لا يبادرون بالتغيير وإن كانوا يرغبون!
المجتمع لا بد أن يكون لديه قابلية للتجدد والتغيير. وعليه أن يقف مع العلماء المصلحين.