قصة وفاء
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الذين اصطفى.
تساءل كثير من الأحبة في ليلة الحفل التأبيني للذكرى الأولى لرحيل الدكتور صادق العمران رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جناته مع محمد وآله الأخيار، عن سر الوفاء الذي يجعل ثلة من الشباب يقيمون هذا التأبين المميز بشهادة كثير ممن حضر التأبين مع بساطته وعدم التكلف فيه.
قال أحدهم، مشروعي في السنوات القادمة في أيام الحج أن أدعو الله أن يرزقني صديقًا يكون وفيًا لي بعد موتي. وقال آخر: ما لقيت أوفى من أصدقاء الدكتور صادق. وقال آخر: أوفياء لرجل الوفاء.
السر في هذا الوفاء له قصة تبدأ من صادق نفسه. صادق ليس شخصًا اعتياديًا إنما هو شخص له حضور مميز ليس فقط في الأحساء بل حضوره عابر للبحار، وقد تبين هذا لمن لم يعرف صادق من خلال الكلمات التي قيلت في حقه نثرًا وشعرًا حين وبعد رحيله.
صادق هو نفسه من صنع هذا الوفاء. كل من احتك به أو تواصل معه من قريب أو من بعيد، لا يسعه إلا أن يقدم شيئًا من الوفاء لهذا العملاق الشامخ بعطائه.
وفاؤه لوالديه:
بذر بذرة الوفاء فيه والداه العزيزان على قلبه رحمهما الله رحمة الأبرار، اللذان رحلا عن الدنيا وهو لم يبلغ السادسة عشر من عمره. وكان وفيًا لهما إلى أبعد الحدود. وفاؤه لهما يعد مدرسة من مدارس الحياة. سُئل ذات مرة عن السبب الرئيس وراء التحاقه بكلية الطب فكان جوابه قمة في الروعة حيث ربطه بالوفاء لوالديه.
كان السؤال: تخصصك وكما يعرف الجميع «الطب»، لماذا هذا الحقل بالذات؟ هل كان صدفة أو رغبة؟ وكان جوابه بالنص من غير زيادة ولا نقص: ﴿العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان﴾، حب وكره: أحببت الطب والتطبب منذ أن عايشت حاجة والدي رحمه الله الذي تُوفي وأنا ابن الثانية عشر سنة متأثرًا بمرض الإلتهاب الشعبي المزمن وكرهت المتسبب فيه وهو التدخين. ومالم تكن الرغبة موجودة لدى الشخص بالقيام على عمل هام ومصيري، فلن يكون النجاح حليفه وخاصة في مجال العمل الإنساني كالطب. وفي مضمون الحديث الشريف: ﴿إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه﴾. نعم كانت رغبة وأمنية لوالدتي رحمة الله عليها تنامت لدي منذ أيام الثانوية العامة فأصبحت رغبتي الخاصة وحققتها لها ولي، وإن لم تعايشها رحمة الله عليها لوفاتها قبل التحاقي بالجامعة بسنتين.
ومن صور وفائه لوالده رحمه الله، قبل عدة شهور من وفاته، وبالتحديد في يوم «القرقيعان» الخامس عشر من شهر رمضان لعام 1438 هـ ، المصادف ليوم رحيل والده قبل أربعين سنة، أخذ عائلته وأبناءه وحفيده إلى قبر والده لزيارته «في مقبرة البغلي بالهفوف»، وهذا ديدنه كلما اشتاق إلى والديه ذهب إلى زيارتهما. في هذه الزيارة أخذ ابنه أحمد على جانب، وهمس في أذنه: إذا متُّ أريدك أن تدفنني بجوار والدي، إما بجنبه أو تحت قدميه.
وفاؤه لأخيه أحمد وأخته آمنة:
وقد رعى تلك البذرة أخوه العزيز أبو عبد الله أحمد بن عبد الله العمران وأخته العزيزة آمنة بنت عبد الله العمران. لقد رعيا تلك البذرة إلى أن أصبحت شجرة مثمرة. وأصبح صادق تلك الشجرة المثمرة بالوفاء لكثير من الناس، وعلى رأسهم والداه وأخوته وزوجته وأبناؤه وأصدقاؤه وزملاؤه وطلابه ومجتمعه.
من صور وفائه لأخيه أحمد، كان يكن له في قلبه احترامًا كبيرًا، وهذا التقدير والاحترام نابع من قلبه بكل صدق، إذ يرى فيه والده، حيث قام بدور التربية والتوجيه والبناء السلوكي والروحي. فاحترامه له كاحترام الابن لأبيه. وكان من صور احترامه له أنه يراعي شعوره إلى أبعد الحدود.
ومن صور وفائه لأخته آمنة، كان يعاملها كوالدته. أخته آمنة ربته وربت إخوتها وأخواتها الصغار وغذتهم حنان الأم. ولم تهتم به فقط بل اهتمت أيضا بأصدقائه منذ أن كان طفلا يافعا. يا ما نعمنا بأطباقها اللذيذة التي تقدمها لنا إذا كنا معه في بيتهم. ومن صور وفائه لها، أصبح دارها مكان تجمع لأبناء وبنات عبد الله العمران وأبنائهم واحفادهم في كثير من المناسبات. ومن صور وفائه أيضا لأخته آمنة وبقية أخواته أنه سافر معهن عدة مرات إلى مراقد أهل البيت .
وفاؤه لزوجته أم أحمد:
قيل:» وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة «. سُئل الدكتور صادق عن تلك المرأة العظيمة التي لها الأثر الكبير في حياته الزوجية والأسرية والعملية. فأجاب بكل ثقة: ما وصلت إليه إن وصلت، ما هو إلا بفضل أم أحمد التي رافقتني الأتراح قبل الأفراح منذ البدايات الصعبة التي يواجهها من كان في سنة التخرج وإلى يومنا هذا فكانت الدعم والسند، والملجأ والمأوى، والمدبر والمستشير، والراعي والرعية، والأم. وبعد هذا كله فهم طبيعة العمل ودور الطبيب في الحياة، وقبل هذا كله الحب والحنان. إن أكرمك الله بإنسان يملك هذه الصفات فلا عذر لك بعدم النجاح. اللهم أسبغ عليها من نعمك واغفر لها وتمنن عليها بالصحة والعافية.
من عاشر أبا أحمد في حله وترحاله يعرف ما مدى حبه واحترامه لأم أحمد ليس فقط كزوجة أو كأم لأولاده، بل لأنها روحه التي بين جنبيه. عرفته معرفة تامة، تعرف ما يريد قبل أن يتكلم. لذلك عندما أجاب تلك الإجابة الآنفة الذكر عن المرأة العظيمة فهو لم يجامل ولم ينمق الإجابة وإنما نطق بالحقيقة التي تصف أم أحمد بما تستحق من ثناء وتقدير واحترام ووفاء.
أم أحمد رزقها الله زوجًا كريمًا إلى أبعد الحدود، كان كريمًا ماديًا ومعنويًا معها ومع أولادها ومع أسرته الكبيرة وأصدقائه ومجتمعه. لذلك تخلقت بأخلاقه في إكرام ضيوفه على كثرتهم وبشكل دائم منذ أن تزوجت به إلى آخر أيامه. وحتى بعد موته، ما زالت على ما عهدناها من الكرم وحسن الضيافة.
وفاؤه لأبنائه:
في أبنائه أشياء كثيرة منه ومن شمائله. وهذا نابع في الأصل من اهتمامه الكبير في تنشئة أولاده وبناته تنشئة واعية حتى يخوضوا غمار الحياة وهم على أسس متينة وقواعد صلبة. يستلهمون من منهجه التربوي العبر والدروس في حياتهم.
على سبيل المثال، عندما يشاهدون ويلمسون من والدهم اهتمامه الكبير بأيتام أصدقائه وبعض أيتام المجتمع، بهذا فهو يغرس في نفوسهم هذه القيم الإنسانية. وعندما يحرص على حضور أيتام أصدقائه في مجلسه ومناسباته وموائده مع ضيوفه، فإنه يعطي دروسًا في التربية أن هؤلاء اليتامى هم امتداد لأصدقائه الذين مازال يتذكرهم ويتذكر الأيام الجميلة التي قضاها معهم.
ومثال آخر، عندما يطلب الدكتور صادق من أم أحمد أن تجهز شقة أحد الشباب المقربين له، قبل زواجه بأيام، إنما هو يعطي أبناءه دروسًا عملية في الوفاء للأصدقاء وللمجتمع.
وفاؤه لأصدقائه:
صور الوفاء لأصدقائه، حدث ولا حرج. فكل صديق من أصدقائه له قصة وفاء مع الدكتور صادق. سأذكر صورتين من صور الوفاء التي عايشتها معه. الصورة الأولى، عندما زرته في غرفة العناية المركزة في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام بعد العملية الأولى التي أجريت له لاستئصال الورم الخبيث. دخلت عليه وكان عنده فاضل السني ابن أخته. سلمت عليه وهو في حالة إعياء شديد من جراء العملية الجراحية. جلست عنده لمدة دقيقتين. وفجأة دخل عليه وفد من بني عمومته، فامتلأت الغرفة بالأنفس. فقلت في نفسي أنسحب حتى أترك الفرصة للآخرين، فودعته وخرجت. وتوجهت إلى الرياض حيث مقر عملي. وبعد سبعين كيلومتر تقريبًا جاءني اتصال من فاضل السني، رديت عليه. وإذا هو صوت الدكتور صادق، وبالكاد يتكلم. قال لي معاتبًا: لماذا تركتني ورحلت؟ تمنيت أن تجلس وقتًا أطول. تمنيت أن تضع يدك على رأسي. تمنيت أن أسمع منك تلاوة أو دعاء أو زيارة. عندها أجهشت بالبكاء، واعتذرت بضيق المكان وكثرة الزوار. وكان هدفي أن أخفف عنه لا أن أضايقه بخروجي من عنده. وفي يومها عاتبت نفسي كثيرا طول الطريق إلى الرياض.
الصورة الثانية، حدثت في زواج ابني حسن. كان الدكتور صادق في فترة نقاهة بعد العملية الأولى، فاعتذر عن الحضور في صالة الزواج. فاقترحتُ على ابني حسن أن يذهب قبل الصالة إلى بيت الدكتور صادق ليسلم عليه ويبارك له بزواجه. فرحب ابني حسن وأيضًا الدكتور صادق بالفكرة، فاجتمع كثيرٌ من الأحبة في بيت أبي أحمد، فاحتفلوا بزواجه وعملوا له زفة كبيرة. وكان الدكتور صادق سعيدًا جدًا وكأنه يزف ابنه أحمد.
هذان الموقفان يجعلاني أقف مشدوها أمام عظمة هذا الرجل وإنسانيته الكبيرة. وهذان الموقفان غيض من فيض. لقد ترك رحمه الله بصمات كثيرة في حياتي، مستحيل أنساها ما حييت. فمهما قدمت من أجل إحياء ذكراه لن أفي أبدًا ما يستحق من الوفاء.
وفاؤه لزملائه وطلابه:
عندما تكلمت عن تجربة الدكتور صادق في التدريب الطبي، ذكر بعض زملائه وطلابه مواقف كثيرة خاصة فيما يقوم به من تحفيزهم ودفعهم للأمام للحصول على الزمالة السعودية والزمالة العربية في طب الأطفال. وكان مشتركا في مجلات بحثية في طب الأطفال، وكان يقدمها لزملائه وطلابه مجانا. وكان يرعى طلابه كأبناء له.
مسك الختام:
أرجع للحديث عن الحفل التأبيني للذكرى الأولى لرحيل الدكتور صادق، وما هي قصة الوفاء فيه؟ وهل بطل هذه القصة شخص واحد؟ أم أن هناك أشخاصًا كثيرين لهم دور كبير في بطولتها؟
في الحقيقة، حفل التأبين ونجاحه وتميزه كان وراؤه إخوة صادقون أوفياء لأخيهم، ووراؤه زوجة وفية لزوجها، ووراؤه أبناء بارين بأبيهم وإن لم يلد بعضهم، ووراؤه أسرة العمران الكريمة الوفية لابنها فاحتضنته، ووراؤه أصدقاء أوفياء لرفيق دربهم، ووراؤه زملاء أوفياء لزميلهم، ووراؤه طلاب أوفياء لأستاذهم، ووراؤه مجتمع وفيّ لابنه البار.
رحم الله أبا أحمد رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جناته مع محمد وآله الأخيار.