إمدح ولكن..
المدح والثناء هو أحد الأساليب التي يُعمل بها لتقدير جهود الآخرين وتشجيعهم سواء في تربية الأبناء أو في المجال المهني أو الاجتماعي آو غيره لما له من عظيم الأثر في تزويدهم بشحنة إيجابية وطاقة وحيوية، وبعث روح الأمل في أرواحهم لتحسين السلوك والأداء وزيادة الإنتاجية والعطاء، وزيادة الثقة بالنفس والاعتماد عليها، ونمو الشخصية والعمل بحماس ورغبة.
ورد في كتاب الطفل بين الوراثة والتربية ”من الميول الفطرية عند الإنسان، والتي تظهر منذ أولى أدوار الطفولة وتظل تلازمه مدى العمر، الرغبة في المدح والثناء من قبل الآخرين. إن كل صغير وكبير يتوقع أن يلاقي استحسانا ومديحا من قبل الأصدقاء والزملاء في الانتصارات التي يحرزها في الحياة، والتقدم الذي يناله في كل مرحلة.“ [1]
لقد حث الله عز وجل في كتابه المجيد عباده على الشكر والثناء وأنه سيكافئ الشاكرين بزيادة النعم وتوعد الكافرين للنعم بالعذاب الشديد حيث قال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [2] . وكذلك هو حال الإنسان فإنه يأنس بسماع كلمة الشكر والثناء والمدح وينعكس ذلك على أدائه ونشاطه وعطائه وإخلاصه وتفانيه.
بالرغم من أهمية المدح والتحفيز إلا أن البعض يتحفظ في إظهار مدحه للآخرين ويمتنع وذلك لأسباب سيتم التطرق لها لاحقا خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأعمال المستحبة والأعمال الاجتماعية التطوعية مما يكون له انعكاسات ونتائج سلبية. سيتم تسليط الضوء على خمسة محاور مع الاستدلال بالروايات الكثيرة التي تناولت الموضوع لترسم لنا منهجية واضحة:
تزكية النفس
ذم مدح الآخرين
الاغترار بالمدح
كيف تمدح
كيف تتعامل مع المدح
نهى الله جل وعلا الإنسان من أن يزكي نفسه كما ورد في قوله: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ا تَّقى﴾ [3] . وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [4]
وورد في الحديث عن رسول الله ﷺ: من قال: إني خير الناس فهو من شر الناس، ومن قال: إني في الجنة فهو في النار [5] . وقال الإمام علي : «أقبح الصدق ثناء الرجل على نفسه» [6] ، وقال: «من مدح نفسه ذبحها» [7] .
ولكننا نلاحظ البعض يتكلم عن نفسه ويمدحها في بعض المواقف فهل يندرج ذلك تحت هذا النهي عن تزكية النفس ويلزم الترك؟ سُئل الإمام الصادق عن الحكم الشرعي لمدح الإنسان نفسه؟ فأجاب: ”نعم إذا اضطر إليه، أما سمعت قول يوسف ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾، وقول العبد الصالح: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾“ [8]
وذكر البعض أن المدح المذموم هو ماكان للافتخار والعجب وفيه إبراز للنفس وتميزها على الأقران ولكن لامانع من ذلك إن كان فيه مصلحة دينية. ورد في كتاب الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ”لا شك في أن مدح الإنسان نفسه يعد من الأمور القبيحة، ولكن ليست هذه قاعدة عامة، بل قد تقتضي الأمور بأن يقوم الإنسان بعرض نفسه على المجتمع والإعلان عن خبراته وتجاربه، لكي يتعرف عليه الناس ويستفيدوا من خبراته ولا يبقى كنزا مستورا“ [9]
كما ذكرنا أعلاه يترتب على مدح الآخرين وتحفيزهم فوائد وآثار جماء مثل الحيوية والنشاط وزيادة العطاء وغيره إلا أنه قد وردت أحاديث كثيرة تذم مدح الإنسان في وجه وتصفه بالذبح أو العقر ولا بد من إيجاد ضابطة معينة تحكم ذلك لكي لايترك المدح.
قال رسول الله ﷺ: إياكم والمدح، فإنه الذبح [10] . وقال: لو مشى رجل إلى رجل بسيف مرهف كان خيرا له من أن يثني عليه في وجهه [11] . وقال: إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه الموسى [12] .
وقال الإمام علي لرجل مدح رجلا في وجهه: عقرت الرجل عقرك الله. [13] . وقال : إن مادحك لخادع لعقلك غاش لك في نفسك بكاذب الإطراء وزور الثناء، فإن حرمته نوالك أو منعته إفضالك وسمك بكل فضيحة ونسبك إلى كل قبيحة [14] .
الأحاديث أعلاه تذم مدح الشخص بماهو فيه، وقد وردت أحاديث تذم مدح الشخص بماليس فيه وكذلك مدح الفاجر والفاسق فمدح الشخص بماليس فيه يعد نوع من الاستهزاء والسخرية ومدعاة للذم إن لم تحقق له أمنيته.
قال رسول الله ﷺ: يا بن مسعود! إذا مدحك الناس فقالوا: إنك تصوم النهار وتقوم الليل وأنت على غير ذلك فلا تفرح بذلك، فإن الله تعالى يقول: * ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ * [15] [16]
وقال الإمام علي : مادح الرجل بما ليس فيه مستهزئ به [17] . وقال : مادحك بما ليس فيك مستهزئ بك، فإن لم تسعفه بنوالك بالغ في ذمك وهجائك [18] . وقال : من أُثني عليه بما ليس فيه سخر به [19] ، وفي حديث آخر: من مدحك بما ليس فيك فهو ذم لك إن عقلت [20] .
ومما ورد في ذم مدح الفاسق والفاجر والسلطان الجائر ماقاله رسول الله ﷺ: إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق [21] . وفي حديث آخر إذا مدح الفاجر اهتز العرش وغضب الرب [22] . وقال: من مدح سلطانا جائرا وتخفف وتضعضع له طمعا فيه كان قرينه إلى النار [23] .
وأحيانا يتم مدح الشخص من قبل الآخرين بدون علمه أو عدم رغبته فإن كان كذلك فعليه أن لا يفرح كثيرا إلى درجة يصيبه منها الغرور والعجب والزهو الذي يخرجه من الإخلاص لله إلى السمعة والرياء ويفتح له أبواب الشيطان. قال رسول الله ﷺ: حب الإطراء والثناء يعمي ويصم عن الدين، ويدع الديار بلاقع [24] .
وقال الإمام علي : أجهل الناس المغتر بقول مادح متملق، يحسن له القبيح، ويبغض إليه النصيح [25] . وقال : الإطراء يحدث الزهو ويدني من الغرة [26] . وقال: حب الإطراء والمدح من أوثق فرص الشيطان [27] . وقال الإمام الإمام الصادق : لا تغتر بقول الجاهل ولا بمدحه فتكبر وتجبر وتعجب بعملك، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع [28] .
وإذا كان كلا ولابد من مدح شخص مقابل مايقوم به من انجازات وخدمات اجتماعية جليلة على سبيل المثال فالرسالة المحمدية السمحاء لم تمنع من ذلك بل وردت روايات عديدة ليكون ضمن ضوابط محكمة لتجنب التملق والإغراق والإفراط والكثرة في المدح الذي يسبب إحراجا للشخص ويصيبه منه الغرور والعجب وقد يخرجه من إخلاص العمل لله عز وجل.
قال الإمام علي : إذا مدحت فاختصر، إذا ذممت فاقتصر [29] . وقال : أكبر الحمق الإغراق في المدح والذم [30] . وقال : كثرة الثناء ملق يحدث الزهو ويدني من العزة [31] . وقال: الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد. [32] .
وروي أن رجلا مدح رجلا عند النبي ﷺ، فقال: ويحك! قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح، ثم قال: إن كان لابد أحدكم مادحا أخاه فليقل: أحب فلانا ولا أزكي على الله أحدا، حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك [33] .
أحيانا يكون الإنسان في موقف محرج يُمدح فيه ويُثنى عليه فكيف يتصرف؟ ذلك ماوجهنا إليه رسول الله ﷺ في قوله: إذا أثني عليك في وجهك فقل: اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون [34] . وقال الإمام الصادق : لا يصير العبد عبدا خالصا لله تعالى حتى يصير المدح والذم عنده سواء، لأن الممدوح عند الله لا يصير مذموما بذمهم، وكذلك المذموم، ولا تفرح بمدح أحد فإنه لا يزيد في منزلتك عند الله، ولا يغنيك عن المحكوم لك والمقدور عليك، ولا تحزن أيضا بذم أحد فإنه لا ينقص عنك ذرة [35] .