زكي الميلاد ونظرية تعارف الحضارات
زكي الميلاد مفكر سعودي وهو كاتب وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة، رئيس تحرير مجلة الكلمة مجلة فصلية فكرية تعنى بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجدد الحضاري. له العديد من المقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، كما له العديد من المؤلفات التي تتناول القضايا الفكرية المعاصرة.
اشتغل الأستاذ زكي الميلاد بالمسائل التي تهمُّ الحضارة والدراسات الحضارية، ومن مؤلفاته المهمة في هذا الشأن كتاب ”تعارف الحضارات“ الصادر سنة 2006م، والذي يقدّمُ فيه تعريفا لفكرة تعارف الحضارات، كيف بدأت؟ وكيف تطورت؟ وما مدى أهميتها في مجال العلاقة بين الحضارات؟
وقد حدثنا الميلاد في هذا الكتاب عن علاقته المبكرة بفكرة الحضارة وكيف تطورت، وكيف كان شغوفا بفكرة الحضارة منذ وقت مبكر، وكانت تستهويه مطالعة كل كتاب يتحدث عن الحضارة فكرة أو تاريخا. وحين تعرف على كتاب «من أجل حوار بين الحضارات» لروجيه غارودي أعجب بهذا الكتاب فكرة وفلسفة ومنهجا، لكنه رأى أن فكرة حوار الحضارات هي فكرة بديعة وخلاّقة، إلا أنها لم تكن لها صدى واهتمام واضح في العالم العربي، ولم تظهر كتابات جادة حول هذه الفكرة في العالم العربي.
ومع ظهور فكرة صدام الحضارات لصامويل هنتنغتون في تسعينات القرن العشرين، وجد الميلاد أن هذه المقولة أصبحت من أكثر المقولات نقاشا وتداولا بين مختلف ثقافات العالم، لأنها تبشّر بعصر أشدّ خطورة من عصر الحرب الباردة، وبانقسامات حادة على مستوى الحضارات. وعلى ضوء هاتين المقولتين اللتان كان لهما صدى في الكتابات والأدبيات والإعلاميات، تساءل الميلاد: لماذا لا تكون هناك نظرية إسلامية تتصل بالعلاقات بين الحضارات؟
وبعد تأمل مستفيض توصل زكي الميلاد إلى أن هناك آية تحث على التعارف، وهي الآية الثالثة عشر من سورة الحجرات: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾. وقد أعطاها مصطلح آية التعارف، فهي تخاطب الناس كافة، حينما جعلهم الله شعوبا وقبائل، والمقصود هنا بالشعوب والقبائل هم التجمعات والمجتمعات الصغيرة والكبيرة، ويدخل في هذا المعنى الأمم والحضارات، والذي جاز للميلاد استعمال هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا جاءت وتبلورت فكرة تعارف الحضارات.
ويذكر المفكر الميلاد أن بداية نشأة هذه الفكرة كان في صيف 1997م، حين أنجز أول بحث حولها نشره في مجلة الكلمة العدد السادس عشر بعنوان ”تعارف الحضارات“، شرح فيه أهمية هذه الفكرة وقيمتها، وكشف عن جوانب اختلافها مع مفهومي صدام الحضارات لهنتنغتون، وحوار الحضارات لغارودي.
وفي تطور آخر، أخذت هذه الفكرة تدرّس في المقرر الدراسي لكتاب التاريخ الصف الحادي عشر في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو المقرر الجديد والمطور للسنة الدراسية 2009/ 2010م، وجاء الحديث عن هذه الفكرة في الجزء الأول من كتاب التاريخ، الدرس الثاني الذي حمل عنوان «أسس العلاقات بين الحضارات الإنسانية»، كما أصبحت موضوعا للعديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في جامعات عربية عدة.
تستند نظرية تعارف الحضارات عند زكي الميلاد على أسس دينية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية يمكن توضيحها على النحو الآتي:
يرى الميلاد أن آية التعارف في سورة الحجرات ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَروَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير «13»﴾ كشفت هذه الآية عن جوانب وأبعاد كلية وإنسانية عامة، ومنها توصل إلى مفهوم اصطلح عليه تعارف الحضارات، فهذه الآية حاولت تحديد مفهوم التعارف وتأكيده، وجاءت لتبرزه وتنص عليه، ومن هذه الجوانب والأبعاد الكلية والعامة:
1 إن الخطاب في سورة الحجرات متوجه بشكل صريح إلى المؤمنين في بداية السورة وفي خاتمتها، باعتبارها من السور المدنية، إلا في هذه الآية الثالثة عشرة إذ توجه الخطاب إلى الناس كافة بصيغة ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾، وكون الخطاب متوجها إلى الناس كافة فهو ناظر إليهم بكل تنوعهم وتعددهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وإلى غير ذلك من تمايزات ومفارقات.
2 التذكير بوحدة الأصل الإنساني في قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَروَأُنثَىٰ﴾، فالناس مع كل اختلافاتهم وتعددياتهم وتباعدهم في المكان والأوطان، إنما يرجعون في جذورهم إلى أصل إنساني واحد. والقصد من ذلك أن يدرك الناس كما لو أنهم أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض الممتدة.
3 الإقرار بالتنوع الإنساني في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ﴾، وهذه حقيقة اجتماعية وقانون تاريخي، فالله سبحانه وتعالى بسط الأرض بهذه المساحة الشاسعة لكي يتوزع الناس فيها شعوبا وقبائل، علما أن القرآن الكريم لم يذكر في كل آياته عبارة ﴿شُعُوبا وَقَبَآئِلَ﴾ إلا في هذه الآية.
4 خطاب إلى الناس كافة، وتذكير بوحدة الأصل الإنساني، وإقرار بالتنوع بين البشر، فتنوع الناس إلى شعوب وقبائل وتكاثرهم وتوزعهم في أرجاء الأرض، لا يعني أن يتفرقوا، وتتقطع بهم السبل، وإنما ﴿لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾.
5 انطلاقا من قاعدة التفاضل والمقارنة، تساءل الميلاد لماذا لم تستخدم الآية كلمة لتحاوروا، أو لتوحدوا، أو لتعاونوا، إلى غير ذلك من كلمات ترتبط بهذا النسق، ويأتي التفضيل لكلمة «لتعارفوا»؟ وهذا هو مصدر القيمة والفاعلية في مفهوم التعارف، فهو المفهوم الذي يؤسس للمفاهيم المذكورة «الحوار، الوحدة، التعاون»، ويُحدد لها شكلها ودرجتها وصورتها، وهو الذي يحافظ على فاعليتها وتطورها واستمرارها، هذا من جهة الإيجاب، وأما من جهة السلب فإن التعارف كمفهوم وفاعلية بإمكانه أن يزيل مسببات النزاع والصدام.
نظرية تعارف الحضارات تجعل العلاقة بين الحضارات وثيقة، وتدفع إلى أن تتعرف كل دولة على ثقافة دولة أو دول أخرى، وبهذا فإن التعارف هو انفتاح على مختلف الثقافات والتعرف عليها، مع الحفاظ على القيم الدينية والإسلامية والأخلاقية لدى الدول العربية والإسلامية.
وفي نظر الأستاذ الميلاد أنه من خلال فلسفة الثقافة نفهم منطق العلاقات بين الثقافات، ونفهم من ثم طبيعة الحدود التي تفصل بين ثقافتنا والثقافات الأخرى، وهذا الذي يقودنا إلى الاستقلال الثقافي.
تعمل نظرية تعارف الحضارات في مجال السياسة على التعرف على مختلف التنظيمات السياسية للدول، وكان التعارف في مجال الأمور السياسية موجود مند العصور الماضية، عندما تعرّف المشركون على التنظيمات التي يقوم بها العرب والمسلمون في الغزوات مع الرسول «صلى الله عليه وسلم»، وأيضا تعرّف العرب والمسلمون على التنظيمات العسكرية للدولة الرومانية.
وبهذا تساهم نظرية تعارف الحضارات على توطيد وتماسك العلاقات السياسية والديبلوماسية بين الدول وتعمل على تطويرها.
تسهم نظرية تعارف الحضارات في التعرف على التسيير الاقتصادي للدول، فهي تساعد على تبادل المعرفة في المجال الاقتصادي، وتقرّب التبادلات الاقتصادية والتجارية بين مختلف الدول، وتعمل على تماسك العلاقات بين الدول والحضارات في مجال الاقتصاد. وكان التعارف موجودا في الأزمنة الماضية في مجال التجارة، وفي عصرنا الحالي تطورت فكرة التعارف في مجال الاقتصاد وعملت على تمتين العلاقات الاقتصادية بين مختلف الدول والحضارات.
ومن هنا يمكن القول أن المفكر زكي الميلاد أعطانا نظرة دقيقة حول نظريته تعارف الحضارات، وبين لنا كيف تسهم هذه النظرية في توطيد العلاقات بين الحضارات وبين الدول في مختلف المجالات: الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فهي نظرية ذات بعد إنساني، والغاية منها تحقيق السلم والسلام والأمن والأمان والتسامح والتواصل والتقارب والتعارف، وتجاوز فكرة الصدام والصراع بين الحضارات وبين الدول.
وتعمل هذه النظرية على احترام الناس كافة، واحترام بعضهم لبعض باختلافهم وتنوعهم وتعددهم، واختلاف دياناتهم ومذاهبهم وأعراقهم، وهذا ما يدعونا إلى لفت الانتباه لهذه النظرية التي تشع بالتسامح والتواصل ونبذ الكراهية والقطيعة بين الناس كافة.