آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

صرافة الرب

غرقت سفينةُ تاجرٍ في البحرِ ونجا. لا يذكر التاجرُ ما ربح ولكن يحصي ما خسر وما كاد أن يكون ربحاً ولم يكن. أصاب التاجرَ الغَمُّ فذكره صاحبه أن اللهَ هو من أعطاه وإن خسرَ في هذه الرحلة فقد أعطاه اللهُ أضعافَ ما سلب منه. كُلُّ البشر في الحياة تجارٌ يخسرون شيئاً ويربحونَ أشياءً وفي ما تحته خَطٌّ من الأرقامِ كُلُّ البشرِ رابحون، لا يخسر إلا من دق مسماراً في سفينته بنفسه وخرقها.

نستيقظ كل يوم وتنتصب أمامنا أشباحُ العمل. فيه من يزعجنا ويأمرنا ويغضب إذا لم نفعل ما يريد. صيفٌ وبردٌ لا بد أن ننتعلَ حذاءَ العمل ولكن ترى هل جال في خواطرنا كم من الناسِ من يبحث عن عملٍ ويتمنى لو حصل على عُشْرِ ما يعطينا العملُ من مالٍ كل شهر. نعيشُ في بيتٍ صغير حتى نبني بيتاً أكبر ولكن لا نطيق الانتظار. نتعثر في الاثاثِ وكُلُّ الصغارِ في دارٍ واحدة. ما أضيقَ العيش! ولكن فسحة الأملِ تأتي عندما نرى كم من الناسِ ليس لديه دارٌ يسكنها ولن تكون له دارٌ سوى القبر الذي سوف يضمه.

في فضاءِ أعيننا أرقامٌ لو عددنا ما خسرنا وما ربحنا طلبت أنفسنا المزيدَ من الأرقام. بنى شخصٌ بيته من الحجرِ على ضفافِ البحر وكلما اشتد الموجُ أصابَ حائطَ البيتِ وأيقظه من النومِ ولكن مَدُّ البحر يأتي والسمك. كان الرجل لا يحتاج الذهاب بعيداً ليصطاد سمكته أو يجلس على شاطئ البحر، ليس عليه سوى الخروج إلى شرفةِ المنزل.

مذاقُ الأكلِ لا يعجبنا، لونُ الحذاءِ ليس ما ظننا. توافه في الحياة نعدها شوكٌ يوخزنَا وكلها نعمٌ يتمناها غيرنا. اسأل المسجونَ عن الحريةِ والمريضَ عن الصحةِ والفقيرَ عن المالِ والمسافرَ عن الوطنِ والأعمى عن الطريقِ والمكسوحَ عن الجري والعقيمَ عن ضجيجِ الولد والأصم عن مقاماتِ الألحان. يكفيك شكوى أن تملكها  كلها أو بعضها.

لي صديقٌ عرفته منذ عشرينَ سنة. كان حينها في بداية ارتقائه مع الشركة التي يعمل لديها وكنت الرأيَ الذي يستشير والمخلصَ الذي يستأمن. كان جل همه كيف يصبح رئيسَ الشركة أو نائبه ودانت له الأيام بما أراد. أصبح نائبَ رئيس الشركة وكان كلما جاء لزيارة عملٍ ذكرني وزارني. جاء ذات مرةٍ وارتمى على الكرسي ووضع يده على عينيه وأمالَ رأسه وقال: أنا متعبٌ، لا أرى أولادي وأهلي إلا بعد أن يناموا وأذهب للعمل وهم نائمون. قلت له: ألم تكن تتمنى هذه الوظيفة؟ قال: بلى ولكن ما كنت أظن أنها هكذا!

يضمنُ الصيرفي الربحَ في التجارة لنفسه وصيرفةُ الرب تعطينا دون أن نخسر، نحن من يأخذ الدينار بالدرهم. نصبح ونمسي وصوت تضجرنَا يعلو صوت راحتنا لكن لو أخذنا ورقةً وقلماً وقلنا هذه لي وهذه ليست لي لسكنت نفوسنا أن ما أعطانا الربُّ أضعافَ ما سلبَ منا وإن كانت سفينةٌ واحدةٌ غرقت فقد رست باقي سفننا..

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
6 / 7 / 2018م - 3:16 م
لم تكن قسمة الرب ضيزى أبداً يعلم الإنسان ذلك لكنه يجهل التصريف ، ( لو أخذنا ورقةً وقلماً وقلنا هذه لي وهذه ليست لي لسكنت نفوسنا أن ما أعطانا الربُّ أضعافَ ما سلبَ منا ) ليته لو كان ذلك للإنسان حقاً لما ضاقت الأرض في عينيه ، كثيرٌ من الحكمة في جميلٍ من الكلم .
مستشار أعلى هندسة بترول