آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

حاكمية المعتقدات

تلعب المعتقدات دوراً كبيراً في تغيير المعايير القيمية لدى الإنسان، فيكون عنده استعدادٌ لتقبل المعايير التي تتفق مع معتقده. وتدفع المعتقدات إلى تشكيل الحقائق بما يتوافق معها لتحقيق الاستقرار النفسي، الذي يتحقق بانسجام المعتقدات مع الواقع. فمثلاً لو اعتقد أحدهم أن سعادته لا تتحقق إلا بوجود الفتاة التي عشقها قلبه في حياته، ولكنه انصدم بسلوكها فيما بعد حين تخلت عن حجابها، فأصبح بين أمرين إما أن يُغير معتقده عنها فيبدي اعتراضه على ذلك وأن عملها هذا مناف لتعاليم الإسلام الحنيف، وبذلك قد يدخل معها في خلافٍ ربما ينتهي بانتهاء العلاقة بينهما؛ أو أنه يتمسك بمعتقده عنها فيُزين عملها ويعتبره استحقاقاً لها وأنه حريةٌ شخصيةٌ لا يتنافى مع كمالها ولا يسقط من شخصيتها في نظره، بل يزيدها إشراقة وأنوثة.

والمعتقدات تعني: عادات العقل الفكرية التي تدل على الصواب والخطأ. وهي بطبيعتها اختيارية، إلا أن هناك معتقدات قد تكون موروثة من خلال الأسرة أو البيئة التي ينتمي إليها الإنسان.

والمعتقدات إما أن تكون نشطةً في وعي الإنسان وبذلك يكون أكثر إيماناً بها، وأقوى على الدفاع عنها، وقد تكون كامنةً في لا وعيه بينما تبقى فاعلةً ومؤثرةً على فكره وسلوكه.

والمعتقدات نوعان: الممكّنة؛ وتعتبر حافزاً قوياً، وتدفع لسلوكيات إيجابية، فتحتاج إلى تعزيز. والمعيقة؛ وهي بطبيعتها السلبية تخلق مانعاً دون تحقيق ما يتطلع إليه الإنسان، فتحتاج إلى معالجة.

ولاكتشاف المعتقدات ينبغي التأمل في الكلمات المنطوقة فهي تُخفي خلفها ما يعتقده الإنسان وعياً أو لا وعياً، وأيضاً تعابير الوجه، والسلوك العام للإنسان؛ وهنا يقول الإمام علي : «ما أضمرَ أحدٌ شيئاً إلاّ ظهرَ في فلتاتِ لِسانِهِ، وصفحاتِ وجهِهِ» [1] .

والمعتقدات التي تتبنّاها بوعي أو بدون وعي، تؤثر بشكلٍ كبيرٍ في صناعة الواقع الذي تعيشه سلباً أو إيجاباً. بل وأكثر من ذلك إنها تتحكم في استجابتك وردود أفعالك تجاه العالم من حولك.

وتعتبر المعتقدات من أهم المرشّحات الذهنية المؤثرة على طريقة إرسال واستقبال ومعالجة المعلومات والأحداث الخارجية، وتعمل حسب السياقات المناسبة لها.

ومثال على ذلك: حين يعتقد أحدهم أن الأفضلية للرجل على المرأة فإن حديثه سيكون حول دونية المرأة وأن مكانها الطبيعي في البيت، بل إن حركتها خارج المنزل تسبب الفتنة.

بينما حين يعتقد آخر بأن المرأة مظلومة ومضطهدة فإن حديثه سيكون دفاعاً عنها وعن ظلامتها، وأنه ينبغي أن تتحرر المرأة من قيود الرجل؛ في حين أنه قد يتجاهل احتمالية أن تكون المرأة مخطئةً أو أن تكون سبباً في إحداث مشكلة.

من هنا فإن محاكمة المعتقدات الذاتية مهمةً جداً خصوصاً لأولئك الذين لهم خطاب جماهيري، وذلك عبر إخضاع تلك المعتقدات للمبادئ والقيم الدينية والإنسانية، لا سيما وأن خطابهم يؤثر على شريحةٍ واسعةٍ من المجتمع، وإذا كانت معتقداتهم تفتقد للتوازن فإن ذلك يؤثر سلباً على الجمهور الذي يتلقى تلك الخطابات.

وعليه فإن معالجة أي قضية عامة أو خاصة ينبغي أن تكون وفق معتقدات متوازنة متجردة عن الذات، وغير متحيّزة لأي جهةٍ فرديةٍ أو جماعية، كي يتوثق الإنسان من تحقيق العدالة في حكمه ومعالجته.

إن مجتمعنا بحاجةٍ ماسةٍ لخطابٍ متوازن، ينبني عن معتقداتٍ متوازنة، ويأخذ على عاتقه تقديم معالجاتٍ واعيةٍ من أجل بناء مجتمعٍ واعٍ يكون أهلاً لخلافة الله تعالى في الأرض.

[1]  نهج البلاغة، قصار الحكم، حكمة رقم: 26.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
GMC
[ القطيف ]: 25 / 6 / 2018م - 6:37 م
مقال رائع لامست فيه وبقوة أمور كثير منا غير ملتفت لها خصوصاً معتقداتنا السلبية والتي نصر عليها مع أنها قد تحرمنا من التقدم في حياتنا، إضافة الى أهمية إلتفات أصحاب الخطابات المسموعة وكيف من المهم أن تكون معتقداتهم متوازنة لا سيما وأنه لهم تأثير على المجتمع.
بالتوفيق.
2
الدكتور أحمد فتح الله
[ تاروت ]: 30 / 6 / 2018م - 3:15 م
المقال جميل صياغةً وتركيبًا، و "دسم" معرفيًّا ورغم قصره الا أنه فيه طول قد وصل إلى واقع مجتمعنا المتأزم بمسلمات كثير منها لا أصل لها.
شكرًا أستاذ تركي، فنحن بحاجة ماسة لمثل هذه المقالات.