آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

خطايا الصيف

تأتي العقوبةُ في عقوقِ الأمِّ والأرض سريعةً فكلاهما فيه حبلٌ سري يمد البشرَ بالحياةِ في العلن ويتوجعانِ ويبكيانِ في الخفاء. ما نعق به الأرضَ في الشتاءِ يأتي العقابُ في الصيف وما نعق به الأمَّ في الصغر نجنيه في الكبر.

يكون الصيفُ في كثيرٍ من البلدان التي درجة حرارتها معتدلةً متنفساً من انخفاض الحرارة. فيه تثمرُ الأشجار وتنبعث من سباتها وفيه يخرجُ الناسُ للنزهة والتخفف من الملابس الثقيلة.  تزدحمُ الشواطئُ والحدائقُ والشوارعُ بمن يسافرون ويقضون إجازاتهم في نهارٍ أطول في المتعة والحركة.

صيفنا يأتي وتلتهب فيه الدنيا خمسةَ أشهرٍ وتتمثل فيه نارُ جهنم مع بقاء القوانين الفيزيائية ثابتةً، لا سقف يظلك منها. عندما تشتد الرياحُ لا يبقى لنا ملجأً سوى الهربَ والاحتماء خوفاً مما تحمله مما يتركه الناسُ في الشوارع، تحمله الريحُ وترميه في وجهِ من يمشي. في صيفنا يموتُ الزرعُ وينقطع الثمرُ ويختبئ البشرُ وتظهر رائحتهم إذا لم يمسهم الماءُ كل يوم. في الصيف يجلس الناسُ تحت أشعةِ الشمسِ رغبةً في سمرة الجسم التي تحيل لونهم الزهري إلى لوننا. أترى ربما كان لوننا قبل الخليقةِ زهرياً وأحالته الشمسُ في تنهداتها أسمراً يشبه الحنطة!

الإنسانُ الذي اقتحم مجراتِ الكون وطوع البحارَ وشق الجبالَ  أعطاه اللهُ ما يكفيه من القدرةِ والعقلِ أن يحول الدنيا إلى جنةٍ وأن يغيرها من أسوأ أحوالها إلى أحسنها ولكنه اختار أن يصنعَ من جنةِ الدنيا جحيماً. قطع أشجارها ودفن بحارها وقلل من أمطارها فأحالتْ حياته جحيماً وقالت له ”يداكَ اوكتَا وفوكَ نفخ!“. تبعثُ الأرضُ آهاتِها مما يجنيه عليه أبناءها من ظلمٍ وخطايا وتتحول إلى ارتفاعٍ في حرارتها، رسالةً تبعثها إليهم أنَّ الأرض ليست  لكم دون غيركم أيها العصاةُ والعاقين، إنَّ الأرضَ لِكُلِّ من سكنها.

رباه يكفيني عقاباً ما أرى في الصيفِ من تمثالٍ لجهنم أقرب لليقين. تُرى أيستحملُ جسمي الهزيلُ ناراً أشد حرارةً من صيفِ حزيران؟ سوف انتقم من فصل الصيف ما استطعت، في الحياة وبعد الحياة. وصيتي أن إذا مت في الصيف ابقوا جسدي في الثلاجة حتى الشتاء، لا أحب الصيف الطويل والنهار الطويل. باركتك السماءُ أيها الشتاء، متى تأتي؟ الصيفُ هو جوهرةُ الفصول وتاجها، في شمسه تأتي الحياةُ وتنضج الثمارُ ويحصد الفلاحون ما زرعوا ولكن ليس لنا منه إلا شدة الحر. اقتربْ أيها الشتاء ضمنا إلى صدرك وأنقذنا.

هربنا منه لسقوفِ المنازل صغاراً في الليل وللعب وعيونِ الماء أينما كانت في النهارِ وبلل الكبارُ خيشاً بالماء ووضعوهَا على رؤوسهم من شدة الحرارةِ. صارعناهُ بعدما جاءت رفاهيةُ العصر بالهواء البارد ولم يزل يطرحنا أرضاً متى ما شاء. هل الربُّ يأخذ منا قيمةَ الخطايا التي عملناها سلفاً ويخفف عنا يوماً من العذاب؟ أم هذا ما جنت أيدينا ”فهنيئاً لنا وكلٌّ امرءٍ يأكل زاده“.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
24 / 6 / 2018م - 9:33 م
دائماً ما يأتينا هذا القلم بأخبار الأيام التي لم نعشها ، وكم هو متميز في موالفة الحاضر بالماضي بماتجودُ به محبرته ومداده ، شكراً أستاذ هلال .
مستشار أعلى هندسة بترول