غانياتِ حزيران
بعضُ الذكرى تشبه الغواني التي تصدها وهي لا تستكين حتى تُدخلكَ حَرَمَ الجُرمِ وتبعدكَ عن الرب. ليس فيها من جمالٍ سوى شيطانيتها وحلاوةَ المعصيةِ في اشتدادِ العُود، وعند ضعفه وانت في عمر التوبة تتملص منها وهي تعود وفي ترددها في الجيئةِ والذهاب تبقى آثارُ حوافرِ خيولهَا العربية في طاسةِ رأسك ورنينُ أجراسهَا في أذنيكَ دونما استحياء.
يذكرني شهر حزيران برحلتنا السنوية التي كنا نذهبُ في تسعيناتِ القرنِ الماضي. لم يكن فيها من شيءٍ سوى أننا نقطع أكثرَ من ثمانِ مئةِ ميلاً بين طلوع الشمس ومغيبها تحت وهجِ الشمس وعواصفِ الطريق، لا يقطع المسيرَ سوى الغداء في أماكنَ متواضعة أو استزادة وقود. تلك الرحلة مع أنها تأخذنا إلى مكةَ الوادي الذي سكنه إبراهيمُ ومحمد وأنبياء اتوا كلهم لهدايةِ البشر والمدينة المنورة حيث خطى النبي محمد ﷺ في مسجدها وصوته يخطب على المنبر وبعضها في جبالِ وبساتينِ الطائف وعمران جدة إلا أنها ليست في أناقةِ وكلفةِ جبالِ الألبِ أو أسواق لندن.
أيامٌ لم يكن فيها سوى القربِ الجسدي والروحي بين أحباءَ تمر فيها مشاهد وساعات وطرائف في البحث عن مسكنٍ أو تيهٍ في الطريق قبل دخول البوصلة الإلكترونية أو الوقوف تحت الشمس عندما تعتل السيارة، خمسةُ صغارٍ كبروا كانوا يحلمونَ بما تحمله لهم الأيامُ من آمالٍ لا يلهونَ عن بعضهم بجمادٍ في أيديهم صامتين ولكن يلهون مع بعضهم وينسجونَ خيوطاً ظهرت ألوانها عندما كبروا. ثلاث رحلاتٍ كان فيها البحث عن جامعةٍ تضم البنات الثلاث الذين أصبحوا أطباءَ ومستشارين.
وإن كان المالُ وافراً وعليك أن تختارَ بين أيامٍ في رحلةٍ عاديةٍ في مشاهدها وليس في أشخاصها أو البذخ، اقنع بما تعطيك الأيامُ من ابتسامةٍ تدوم ذكراها. لا يهم الصغير أين يكون وما أكل طالما أن أوراق أشجار والديه تخفق فوق رأسه وتظلله. لن يلومكَ على قلةِ السفر أو الرفاهية ولكنه يلومك إن أنت لم تأخذ بيديه وتعطه أجنحةَ العلمِ التي يحلق بها فوق الغيوم. لا ضير سوف يكبر يوماً ما ويسافر وأنت ترجوه أن يعود!
وضعت الرأسماليةُ ألواحاً في أيدينا، اشتريناها بأموالنا، ألهتنَا عن المحبة ولم يبق من أسرارِ خلقنا سوى العينِ الرمداء التي تنظر في تلك الألواح والأصابع التي تنقرها. حبذا لو اقتطعنا بعضاً من ساعاتِ الدنيا أين ومتى وكيفما استطعنا، صغاراً نلكزُ بعضنا ونضحك من بعضنا دون سبب. أيامنا وساعاتنَا ودقائقنَا هي كل ما أعطانا الرب على أرضه وثمن الخلود يجب أَلاَّ نقنع بغيرها.
تتشظى أحلامُ نائمِ اليقظة، يصبحُ بعض شظاياها كبيرةً وينساها وبعضها صغيرةً ولكنها تتجذر في ذكراه. هلا صدقتني عندما قلتُ أن هذه الذكرى من الغواني التي تأتي في أسرارِ الليل بعد المشيب! أود أن أنامَ في المقعد الخلفي وياخذني ابني في ذات الرحلة، دورةُ العمر ربما أتممتها، سامحني يا رب.