منشد العراق وأوتار الحزن الطويل
وأنا أشاهد برنامج“منشد العراق”الذي يقدم نسخة دينية من البرنامج الشهير the voice، أيقظت الصور والأصوات كل التماوجات التي تمر بها فئة المتدينين في هزيع التحولات الكونية، والتقنية، والثقافية، وما يتبعها من ارتدادات اجتماعية، الوجوه اليافعة والمترعة بالحياة ستأخذني إلى ضفاف النهر الذي يرتوي منه الناس اليوم، نهر لا ينتظر الأسئلة القديمة، بل يجري مجرى الحياة العامة، أزياء وتصفيفات شعر، وحضور فوتوجيني يستعير من أحلام النجومية كل متاعها.
المحكمون - بكسر الكاف - الذين يحملون لقب ملا ورادود وشاعر وملحن كانوا يكتبون بحضورهم بيان المرحلة التي سينشغل فيها الرادود أو المنشد الديني بالإيقاع واللحن والمقامات، تتمايل نظراتهم وخواطرهم طربا وهم يصغون لأصوات عطشى للغناء، أو الإنشاد كما يقترح البرنامج، وهو منذور بحسب سياق الحلقات إلى صورة واحدة من الإنشاد وهي الإنشاد الحزين، التراتيل الكربلائية التي لا تعرفها حق المعرفة إلا في المراثي العراقية وأهلها.
البرنامج برمته صورة مستلة من عالم الحداثة، ومعطيات الإعلام الحديث، غير أن المحتوى يرسم حدوده عند ذاكرة الأمس، يسمعنا مديحا ورثاءا لفصول من تلك الذاكرة، وإن عاود ابتكار لغته وصوره وخياله مرارا، هي ذروة الحزن الذي فاضت حوله ولأجله الكثير من القصائد والألحان، ما يجعل الحاضر بداية أخرى لنهاية لا يراد لها أن تنتهي.
هذه البلاد الفائضة بالحزن والجنائز هي فائضة أيضا بنصوص تكفي لتهب الأحزان القديمة طراوة وحياة، تصغي للطميات حمزه الصغير على ألسنة المتسابقين فتدهش لهذا التعقيد اللحني الذي يدوزن دموع الناس، لطميات تذهب بالحزن بعيدا وهي تأخذ المفردة إلى مداها البعيد على مستوى الأداء، هي ذات الحكاية العاشورائية غير أنها تصقل“بماء الروح”في كل مرة يعاد كتابتها.
تلك الوجوه الشابة التي حاصرتني بأصواتها في الليالي الفائتة لا أحسبها ستبقى بين هلالي الحزن، سيتواطأ الوقت وتحولات العمر لدفعها أكثر في متسع الغناء للحياة، خاصة وأن المسافة تتضاءل بل تكاد تضمحل بين الغناء من داخل دائرة التدين وخارجه، وسرعة التحولات كفيلة بأن تهب أصواتهم وأجسادهم الطرية الكثير من الأسئلة التي لا جواب لها إلا العدو بين المحطات، واكتشاف الحياة في الغرفة المجاورة.