الحداثة مشروع لا يكتمل
من المقولات التي اشتهر بها كثيرا المفكر الألماني يورغن هابرماس، مقولة أن «الحداثة مشروع لم يكتمل»، أو «مشروع لم ينجز» على اختلاف الترجمات، وهذه المقولة في الأصل كانت عنوان محاضرة ألقاها هابرماس سنة 1980م، بمناسبة تسلمه جائزة أدورنو التي تمنحها مدينة فرانكفورت الألمانية.
وقد تعمد هابرماس التذكير بهذه المقولة، ولفت الانتباه إليها، وذلك حين جعل منها كلمات السطر الأول للتمهيد المقتضب الذي افتتح به كتابه الشهير «القول الفلسفي للحداثة» على ترجمة، أو «الخطاب الفلسفي للحداثة» على ترجمة أخرى، الصادر سنة 1985م.
في هذا التمهيد اعتبر هابرماس أن موضوع محاضرته أثار جدلا متعدد الأوجه، ما انفك يلاحقه منذ ذلك الحين حتى كتابة وإعداد هذا الكتاب.
وأما الدافع في اختيار هذا الموضوع، فقد تحدد عند هابرماس في أمرين، الأمر الأول له طبيعة خاصة ويتعلق بموطنه ألمانيا التي لقت فيه البنيوية الفرنسية الجديدة رواجا، واحتلت جوانبها الفلسفية مكانا اتسعت أهميته في ذهن الجمهور.
والأمر الثاني له طبيعة عامة، ويتعلق بالموقف من تيار ما بعد الحداثة، الذي وضع الحداثة في دائرة المساءلة والشك والاتهام، ووصل الحال عند بعض إلى إعلان نهاية الحداثة وموتها، والدعوة إلى التخلي عنها، وتبنى خطاب مغاير لها.
وهذا ما أثار دهشة هابرماس، والمقولة التي أطلقها أراد منها الدفاع عن الحداثة من جهة، ونقد مقولة ما بعد الحداثة من جهة أخرى، ولهذه المهمة المزدوجة سخر هابرماس كتابه الكبير «القول الفلسفي للحداثة»، الذي بذل فيه جهدا نظريا ونقديا جادا وكبيرا، وأراد منه بكل ثقة وطموح إعادة بناء القول الفلسفي للحداثة خطوة أثر خطوة، بالعودة إلى نهاية القرن الثامن عشر وما بعده.
وبحسب تلك المقولة، فإن الفكر الأوروبي ما زال في مرحلة الحداثة التي لم تصل بعد إلى حد الاكتمال، ومن ثم لا ينبغي مغادرة هذه المرحلة، ولا بد من البقاء فيها، والثبات عليها، والاستمرارية معها، وفي الجانب الآخر لا معنى ولا حاجة لمقولة ما بعد الحداثة، فهذا الطور لا أصل له ولا أساس، لا من الناحية الزمنية والتاريخية، ولا من الناحية الفكرية والفلسفية.
ومن هذه الجهة، يعد هابرماس أحد أبرز المدافعين المعاصرين عن الحداثة إرثا وتراثا مع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، الدفاع الذي ترتب عليه الانخراط في أضخم عملية نقاشية ونقدية لنصوص الحداثة التحليلية والتأسيسية، وخطاباتها الفكرية والفلسفية، وأطوارها وتطوراتها الزمنية والتاريخية، الممتدة منذ نهاية القرن الثامن عشر من زمن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت «1724 - 1804م»، إلى زمن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو «1926 - 1984م» وما بعده، العمل الذي جعل هابرماس يمثل محطة مهمة يؤرخ لها في تاريخ تطور خطاب الحداثة في ساحة الفكر الأوروبي المعاصر.
ومن جهة أخرى، يعد هابرماس أحد أبرز الناقدين والمحاججين لمقولة ما بعد الحداثة، مع ملاحظة أن هابرماس قد يتفق مع تيار ما بعد الحداثة إذا كانت هذه المقولة تعني الاستمرارية مع الحداثة، والارتباط بها، والتواصل معها، لكنه يختلف معها جذريا، وينقدها بصورة كلية وصارمة إذا كانت تعني القطيعة مع الحداثة، وفك الارتباط بها، وإعلان فشلها وموتها ونهايتها.
وبالعودة إلى تلك المقولة الشهيرة، فإن عدم اكتمال الحداثة لا يعني في نظر هابرماس أنها حداثة ناقصة كما فهم البعض وعبر عن ذلك خطأ، فهابرماس لم يكن بصدد الإشارة إلى نقصان الحداثة، وعدم الاكتمال لا يعني بالضرورة النقصان، خاصة وأن هابرماس كان بصدد مدح الحداثة والدفاع عنها، ولم يكن بصدد ذمها وإظهار العيب فيها، فالنقص هو تعييب للحداثة، وعدم الاكتمال ليس تعييبا، وإنما يعني أن الحداثة ما زالت تحافظ على حيويتها وطاقتها، ولم تتوقف وتستنفد.
ومنذ أن عرفت هذه المقولة لقت رواجا واسعا، وسرعان ما دخلت حيز المجال التداولي، وأصبحت من المقولات المعروفة والمتواترة في النطاق العربي، وبات البعض يعرف هابرماس بهذه المقولة، وهناك من أعطاها صفة الأطروحة، إلى جانب من أعطاها صفة النظرية، لكن لم أجد حتى هذه اللحظة من توقف أمام هذه المقولة فاحصا لها ومناقشا، ومن تعامل معها بطريقة نقدية، وكأنها من المقولات الثابتة والمتسالم عليها، الوضع الذي جعلها تأخذ صفة المقولة الجامدة والساكنة في المجال الفكري العربي.
وبعد الفحص والنظر في هذه المقولة، وجدت أن بالإمكان تخطئتها، وذلك من ناحيتي المبنى والمعنى، فمن ناحية المبنى عدم الاكتمال يقال للشيء الذي له قابلية الاكتمال، فله بداية وله نهاية يصل عندها ويظهر عليه الاكتمال، أما الشيء الذي لا يكتمل لا يقال له أنه لم يكتمل لأنه لا يكتمل أساسا، والحداثة من هذا النوع فهي من ناحية الأصل والأساس لا تكتمل، فلا يقال لها أنها لم تكتمل.
ومن ناحية المعنى فإن الحداثة مشروع لا يكتمل، وذلك لأن العقل له معين لا ينضب لا من الطاقة ولا من الخيال ولا من الطموح، ولأن حركة العلم التراكمية لا تتوقف، وهكذا حركة الزمن لا تتوقف كذلك، هذه هي العناصر الأساسية المكونة لبنية الحداثة، وما دامت هذه العناصر لا تكتمل فإن الحداثة لا تكتمل كذلك، فالحداثة يمكن أن تنتكس لكنها لا تكتمل.