الورقة الأخيرة
يأتي الخريفُ وتسقط فيه أوراقُ الحياة ثم يأتي الربيع وتنمو فيه غيرها. لقد استعرتُ من وقت القراء ما لزم لقراءة مذكرات كتبتها ونشرتها في سنة. عندما كان يعتريها الضعف ويبين هزال الفكرة كان يعتريني وعندما تكون صلبةً كانت همتي على سفح الجبل. حاولت إسعادَ القارئ حيناً وإحزانهُ حيناً. أصبت في القليل وأخطأت في الكثير. لم تكن خواطر بل كانت قصاصاتٍ من الأفكار امررتها في كتاباتٍ قصيرة متعمداً الاختصار في زمنٍ يتسع لكل شيء سوى القليلَ من القراءة المختارة.
كانت الاولى بعنوان ”في الستينات“ وهي بعض تجارب الحياة خلال عمري الذي بدأ في الستينات وانا اكتبها كنت على مشارف الستينات. لم أكن كاتباً أو أديباً ولكن قرأت بعض كتب الأدب والروايات التي طفحت في نفسي وسال بها الفكرُ والقلمُ احياناً. يستدعي اختصاصُ الهندسة أن تعرف شيئاً عن اللغة كي تتمكن من إمرار أفكارك ومعتقداتك الهندسية ولطول ما هجرنا اللغة العربية غابت نفائسها عني ولم استطع ترويضها وركوبها في أوديةِ وجبالِ النصوص الأدبية.
كانت الثانية بعنوان ”مذكرات رجل حر“. وهي في بساطتها تعني رجلٌ دون عمل أو ما يحب القارئ أن يلبسها من لباسِ التورية. حاولت مخاطبة روحِ الإنسان في السعادة والحزن واستنسختُ ما يجري في عالمنا المجنون من أحداثٍ شاب لها الفؤاد في السنوات المنفرطة التي انفرط فيها كثيرٌ من القيم والحدود والدول. لم أنبش السياسةَ أو الدين ليس للجهل المطلق ولكن تحاشياً لمجال كلٌّ له فيه رأي يراه سديد وهما عنوان أودية الشوك. في كل الأحوال لابد لمن يوقد نار فكره أن تأخذه الأسئلةُ وربما الحيرة في الكون وفي نفسه ولا يلبث إلا أن يتواضع ويقول لا أعلم ولن أعلم ما السر في ذا أو ذاك.
ربما تكون هذه آخرَ ورقةٍ في هذا الجهد الذي جربته وإن كان في العمر أوراقٌ تأتي الكتابةُ القادمة في مشاهد من الحياة. ليس النقد أو النصح لكن الوصف أقرب لما ستكون. لابد لمن شارف على الستين في الدنيا وجهة نظر وتأتي الغضاضة في الخوف من الإسهاب والحساسية فيها.
وانا اكتب هذه الورقة لم أكن أعلم أن كل طعامٍ تأكله لا يبقى في فمك سوى طعم اللقمة الأخيرة وأن كل رحلة تنهيها يضنيك ألمُ نهايتها أكثر مما كان يضنيك حين يستعصي عليك شيءٌ فيها. لم تكن هذه الانشآتْ ذاتَ قيمةٍ مطبعية لكن ربما يكبر الأحفادُ والأسباطُ يوماً ويذكروا الشيخَ الذي احبهم واكرمهم فيكرموهُ بجمع شتاتها ويختاروا منها ما يكون لهم بعنوان ”مذكرات جدو“.
لن نكونَ كلنا ممن يدون التاريخُ حياتهم فليس سوى حالاتٍ شاذة يتمرد فيها أفرادٌ على واقعهم سلباً أو إيجاباً ويفتح التاريخ لهم بابه. اكتب تاريخك وحياتك ما استطعت ولا تثق بذاكرتك فالذاكرةُ في العالم العربي تملأها أحداثٌ تأخذها إلى الغروب سريعاً، من يدري لعلك تكون ذاك الإنسان الذي تكون له الدنيا منزل أحلامٍ ويذكره الناس طويلاً.