قلت للجابري: لماذا لا تكتب عن القرآن الكريم؟!
ربما كان ذلك في مساء يوم الثلاثاء 24 أكتوبر 2000م حين انتهى المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، من إلقاء محاضرته عن العولمة في مركز البحوث الإسلامية بمؤسسة الملك فيصل.. جئت لا للاستماع لهذا الموضوع فحسب، وقد كان شائعاً في أقلام الكتاب ومتداولاً في محاضرات المفكرين - وقتذاك - وإنما لتجديد أواصر صداقة تقادم عهدها، ابتدأت منذ حلّ الجابري ومحمد أركون المفكر الفرنسي من أصل جزائري، في مهرجان الجنادرية أيام ازدهاره منتصف الثمانينيات الميلادية، ووجدتني أميل لمطارحة الجابري في مشروعه التفكيكي الرائد عن ”نقد العقل العربي“ رغم المؤاخذة على مفاتيحه البحثية التي قسم بها العقل العربي في ثلاثيته التنميطية إلى ”البيان والبرهان والعرفان“ ذلك أن الجابري كان أبعد عن تأثيرات المستشرقين في دراسة الفكر العربي والإسلامي، الذين انصاع لهم أركون انصياعاً ”تاريخانياً“! في دراسة القرآن الكريم.
بعدما انتهى الجابري من إلقاء محاضرته، انطلقت معه بجولة في سيارتي، متحاوراً معه في قضايا الساعة - إذ ذاك - حين كانت الانتفاضة الفلسطينية في أوجها، والنظام السياسي العربي بدا متعثر الخطو بعد حرب الخليج الثانية، مثقلاً باستحقاقات شعوبه المستيقضة على وقع العولمة المدوي.
كان الجابري قد شارف على الانتهاء من صياغة مشروعه في ”نقد العقل العربي“.. وأدعه هنا يكمل الحديث كما جاء في تقديمه لكتابه ”مدخل إلى فهم القرآن الكريم“ صفحة 14 الصادر في أكتوبر سنة 2006 من مركز دراسات الوحدة العربية.
”انتهيت من العقل الأخلاقي العربي في مستهل العام 2001 وأنا في شبه نشوة مثل تلك التي تنتاب المتجول في غابة عند بلوغه مخرجاً من مخارجها! غير أني ما إن أخذت أفرك عيني على ضوء الفضاء/ الفراغ المحيط بالغابة إذا ببعض الأصدقاء يمطرونني بأسئلة من نوع: وماذا بعد؟ بعضهم أجاب بنفسه فاقترح كتاباً في“ الجمال في الفكر العربي ”باعتبار اتصال هذا الموضوع بالأخلاق، فكلاهما بحث في القيم. وبعضهم اقترح كتاباً في“ الفكر العلمي عند العرب" بعد أن تناولت الفكر النحوي والفقهي والبلاغي والسياسي والأخلاقي في الأجزاء السابقة.
وفي نفس الفترة التي اقتُرحَت علي خلالها هذه الموضوعات - أو قبلها بقليل - اقترح صديق من السعودية، ونحن على سيارته متجهين إلى ”عزيمة“ عشاء في منزل صديق مشترك بالرياض، اقترح قائلاً: ”لماذا لا يكون الكتاب المقبل في القرآن؟“.
كان هذا ثمرة حوار جولتي مع أستاذنا الجابري بالسيارة، في شوارع الرياض مساء 24 أكتوبر 2000م، وقد أفصح عن ذلك في لقائه بجمهور معرض الرياض الدولي للكتاب مارس سنة 2009، ثم أعقبه في حوار تلفازي.. مفاجئاً قراءه المنتشرين في العالم العربي - بعد ذلك - بمجلداته عن القرآن الكريم، مختتماً بها مسيرته العلمية والتأليفية الحافلة.
في حين سبقه المفكر محمد أركون، بإلقاء محاضرة على طلبته في جامعة السوربون، دارت حول مشاهداته وحواراته في الرياض مع مثقفي المملكة من الجنسين، وقد انقلب ”مخياله“ مندهشاً بعدها، من التصور النمطي المقلوب عن تخلف مجتمع المملكة، إلى حيث انطلق مذاك مع الانفتاح على العالم، نحو التغير البنيوي المتدرج في هندسة اجتماعية جديدة، وحراك ثقافي عصري، تفاعل وما يزال مع آفاق الثقافة العربية المتجددة، متأثراً بثورات العالم المعرفية الحديثة.