آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

رجلٌ كتب نعيه

يشط الخيالُ في وصفِ ما وراء المادة الذي لم يراه ولم يعرف حُزُونةَ المجهولِ. ترتجفُ يداهُ مما سيجلبه سوى أنه يذكر رأفةَ الربِّ ويُلبس الوصفَ لباسَ المادة اللينة.

نمتُ يوماً، جاءت غيمةٌ سوداء غطتنيْ كالرداء. أردتُ أن أقوم، أردتُ أن أتكلم، لم يكن لي أي من الأعمالِ التي كنتُ أقوم بها. شيءٌ جديدٌ لم أعرفه في جسدي! أرى وأسمع وأتألم ولكن أمتنع التعبير عن احاسيسي.

جاء اهلي ونادوني أجبتُ وكلما اجبتُ نادوا ثانيةً. رباه لا يسمعوني! جاءَ المزيدُ منهم بعضهم قال ادعوا الطبيب. جاءَ رجلٌ وضع شيئاً بارداً على صدري وأمسك بيدي ولكنها ارتخت عليه. قال انتهى كل شيء، لقد عبر صاحبكم إلى الحقيقة. بكى بعضُ من حضر والبعض غاب في فكره كأنه لا يعرف ماذا عليه أن يقول أو يفعل.

ظننتُ انها حالةَ عشقٍ حشدت أهلي الغرباء عند سريري لكنها طالت. امتدت أيادي لما أملك، قلتُ قلمي كيف سأكتب أفكاري دونه. أفكاري الخفيفة ولكن ألسنا في زمن الخفة والسخافة؟ نظارتي كيف سأرى دونها العالم المُكْفَهِرّ، مفاتيحي ومحفظتي عنوانُ ما ملكتُهُ في ستةِ عقود، لم تأخذوهَا! لم تَعُدْ فصلاً من مسرحية أو قصةَ عشق. رقصت شياطينُ الحزنِ في رأسي وثار بركانُ الأسى.

حضر رجالٌ كثيرون غطوا وجهي وأركبوني سيارةً شممت منها رائحة الموتى وانا اصرخ لِمْ لا تدعوني اركب بنفسي؟ كانت الرحلةُ قصيرة بعدها وضعوني على سريرٍ خشنٍ آلمني لكن من يسمع شكواي. تجرأ غريبٌ ونزع ملابسي بكل فظاظة، ملابسَ كنت استحي امشي بدونها بين الناس وصَبَّ رجلٌ ماءً بارداً على جسدي كم تمنيت أن يكون أكثر سخونة. جاء اهلي بحقيبةٍ فيها أدواتُ سفرٍ إلى المجهول. فيها قطعُ قماش صفراء وضعها رجلان على بدني. انتابتني نوبةُ ضحكٍ على ملابسي الرخيصة التي تشبه ملابسَ المعدمين. قرأوا أسطراً كتبتها لهم فيها أن يرحموني حين تحضر تلك الحالةُ المجهولة الكيفية اليقينية الحصول. كتبت لهم أسطراً لو تيقنت أن الحياةَ تغرب بهذه السرعة أعدت كتابتها مراتٍ ومرات.

حشروني في غرفةٍ مظلمةٍ ضيقةٍ تبددت فيها كلُّ أحلامِ العودة إلى الضوء والسعة. رجلٌ مجهول اعطاني جواب أسئلةٍ كمن يعطي الطالبَ ورقة الأجوبة بعد انتهاء حصة الامتحان. أنا منشغلٌ بالنظر إلى وجوهِ الناس فوق الأرض. واحدٌ ثم اثنان ثم البقية تسللوا وساد صمتٌ كنتُ أسمعه عندما أناجي الموتى. ظهر من الصمتِ كُلُّ الأرواحِ التي عرفت روحي قالوا لا تخف، تَنْعَمْ في الجوار. أبي، أمي، أخوتي وكل من عرفني.

حضرت غيومٌ ملونةٌ بيضاءَ سوداءَ وردية وأروني حياتاً رأيتها وأياماً عشتهَا. تحت كُلِّ مشهدٍ علامة صفرٍ أو سالبةٍ أو موجب. كانت الاصفار والسالبة كثيرة والموجبة قليلة. محصلةٌ صحيفتك تافهةٌ أيها الإنسان، نم ايها الصعلوك حتى يُنادى اسمك وكن بين الرجاء والأمل وليس بين الرجاء والخوف.

رحلةٌ كانت قاسيةً في كل تفاصيلها لكن وما حيلةٌ المضطر إلا ركوبها. فيها افتقدت ما أحب ومن أحب وتخففت فيها من أثقال المادة في الشطر الآخر. غير ملتبسٍ علينا أن مسير القضاء مظلمٌ دون النور الذي يقذفه الرب طول الطريق ليجعلهُ مثل الانتقال من الليل إلى انبلاج الصبح. أنا لا أزال في الأحياء ولا أنوي أن التحف غير فراشي أو أتوسد غير وسادتي بطوعي ولكن أليس هكذا يكون حالُ من يعبر القنطرة!

مستشار أعلى هندسة بترول