آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

وجع المدن

تكتسب المدنُ حياةً من أهلها عندما يبعثونها حيةً في التاريخِ وتبكي وجعاً عندما يتناثر غبارُ ما بناه أجيالٌ في مئاتِ وآلاف السنين من الحضارة. نَزَفَ جراح المدنِ العربية في السنوات الأخيرة فانهارت بنيتها التحتية بشقيها العمراني والإنساني. سُرق منها التاريخُ في سرقة المتاحفِ  والروابطِ التاريخية وتدمير كل ما يشكل رافعةَ تقدمٍ لساكنيها حتى من يراها يحسب أنها عادت إلى ما قبل التدوين والتأريخ. مدنٌ كانت مكامنَ كثيرٍ من الحضارات ومنشأ ابجدياتها ومهبطَ وحيٍ أدبي وفكري وعقائدي. منها من كتب عنها البغدادي وابن عساكر ومنها من جاء في طياتِ القرآن الكريم.

ما يتطاير من غبارِ المدن يمكن لملمته بملياراتِ الدولارات في سنين ولكن تبقى مدنٌ دون عروقها الممتدة في أذهان ساكنيها وعارفيهَا بمتاحفها وفنونها المعمارية وأهلها المتغايرة الأديان. بينما لا يمكن لملمة البشر حين يحتربونْ، ينادي الأخُ أخاه والولدُ ابنه لأخذ الثأر في الليل ويبقى الموتُ ماشياً بينهم أو يُستبدل ساكنٌ بآخر أو يَهْجُرَ المدنَ ساكنيها دون عودة. تعرف الأرضُ والدارُ عامرها، تلين له وتستكين ولكن ما أن يهجرها تنتقض كأنما سكنتها الغولُ والشياطين. يقود الخيالُ إلى ملكيةِ الجماد العقل والقلب!

في ظل الأوضاع العربية الراهنة فقدت كثيرٌ من المدن العربية الرمزية التي كان التاريخ يسجل لها حضوراً فقلما تستعرض حدثا في التاريخ دون أن يكون لها ذكر. بكت تلك المدن وصارت أطلالاً ينهبها أهلها ويشاركون في هدم أسسها. يصدق عليها قول طرفة بن العبد:

لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ

تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ

اليوم اختفت القدسُ من خارطةِ مدن العربِ والمسلمين وبقي فيها ساكنون ينتظرون الاقتلاع بعد أن كانت في أيديهم. كنت في الصغر اقرأُ تاريخَ العرب والمسلمين في الأندلس. أبكي في قصورها ومحاريبهَا وأسواقها  وكيف ساهم أهلها في خروجها من أيديهم ولم يبكوا عليها بعد ذهابها. لم نشهد انفلات غرناطة الأندلس من بني الأحمر أو 1948م ولكن شهدنا مدناً تحولت إلى ركامٍ يحتاج إلى عشراتِ ومئاتِ السنين ليعود احجاراً متراصة.

في أدبنا العربي كان رجلٌ على شفير الهبوط في وادي الموت أحضر أبنائه وأعطاهم درساً يحميهم من غائلةِ الزمن: أعطى كل واحدٍ منهم عوداً منفرداً، كسروه كلهم. أعطاهم حزمةَ أعوادٍ عجز الكل عن كسرها مجتمعة. المثل الشعبي الذي كانت أمي تذكره عندما يجتمع سببان في الشر كان ”تعاونَ البينُ والحادي على أجلي“ مما يعني ألا نتظافرَ لهدم ما بنينا ”وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى? مِنْ أُمَّةٍ ? إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ? وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ“.

ليس في الإمكان إرجاع مسكوبٍ إذا انسكبا ولكن بشيءٍ من الجهد يعود مسلوبٌ إذا سُلبا. في خط الأرقام البياني حتى نصل الى الموجب لا بد أن نمر بنقطة الصفر التي عندها يُرفع المبضع ويتعافى الجسد وينحدرَ إلى البناء ويستفيد من طاقاته الإبداعية التي تسربت إلى الشرق والغرب وتحت التراب. لا ينفع العود بعد أن تقطعت أوتاره طرباً إلى المقام في الأندلس أن نغني مدينةً أخرى، يكفينا:
جادك الغيثُ إِذا الغيث همى
يا زمانِ الوصل بالأَندلسِ
لم يكن وصْلُك إِلاّ حُلُمًا
في الكرى أَو خُلسة المختَلِسِ
وروى النُّعمانُ عن ماءِ السّما
كيف يَروي مالِكٌ عن أنَسِ
فكساهُ الحُسن ثوبًا معلما
يزدهي منه بأبهى مَلبسِ

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 17 / 5 / 2018م - 2:20 ص
أيا وجعُ المدن ليت ريحها يأنُّ ويعزف أوجاعها ناياً حزيناً ، وليت تربها يحكي للسننين حكايا الأقدام وماحفرت على خدها من نتوء ، تنتقل بين كفالة البشر في كل زمن وعمر ولا من يصون العهد ولا من يمسكُ على الجذور ، إلا ما خلى من قلمٍ أو ريشة قد تنكت الجرح وقد تطببه معاً ، دام القلم الناطق .
مستشار أعلى هندسة بترول