آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

في ثيابي

يولد المرءُ لا يدري ماذا يريد. لا يرى سوى أنَّ في والديهِ سِرَّ العظمة، يتوسلُ ملابسهم ويتحرك بحركاتهم ويتكلم بكلماتهم. يكبرُ ويتمردُ على تلك العلاقةِ ولا يكاد يبقى من تلك الرغبةِ شيء.  لكن متى ما اقتلعت الرياحُ تلك الأغصانِ التي كان يحتمي بها واستحالَ الروضُ شوكاً صَاحَ أين هما؟ عودا ولو يوماً واحداً ثم عودا. ما اقتلعته الريحُ لن يعود ولكن تبقى للولدِ الكبير حبوةُ أبيه، الثوبُ والخاتمُ والسيفُ والمصحف.

الثيابُ والخاتمُ والسيفُ والمصحفُ أشياءً يملكها الرجلُ وتعبر عن فخره. لو استطاع ترك روحهُ على الأرضِ من بعده لفعل ولكن يأتي يومٌ يقول فيه ملكُ الموتِ لروحِ البشر تَعالي، حينها تبقى رموزه حبوةَ ابنه الأكبر بعد موته.  في حياته يزهو فخراً عندما يعلم أن ابنه شبيهٌ به. يتذكر أنه كلما نظر ابنُهُ في المرآةِ أو في ينبوعَ ماءٍ رآهُ وفي مماته يملأُُ روحه السرورُ أن يرى سيفه لم يصدأ ورائحةَ ثيابه تضوع وأوراقَ كتابه تُنشر.

سيفُ الرجل إرثُ الكرامة لا يصدأ ويقول ما بنته الأجيالُ بالعلم أنا أحميه في ساحاتِ القتال، ما تركته أمةٌ إلا فرقها الذل مثل الحَبِّ تذروهُ الرياح. ثيابه تقول لا يلبس الرجلُ إلا العزَّ والفخار، لا يهم أن تكون الثيابُ صغيرةً أو كبيرة لكن من يلبسها عليه أن يكون في حجمها. حذاءه  يمشي مع العابرين إلى الهمم والعزائم، عمامته تاج القوم وحزامه يشده ويأمره بالنهوض عندما تقول له الايام اجلس.

أشياء يحبوهَا الرجلُ ولده الأكبر وهي ماعدا المصحف تباع وتشترى لكنها مظاهر خارجية تقول أنت خيطُ بقائي فيك أتبلورُ وأصير ذاتاً متجددة.  ربما لن يلبس أحدٌ ثيابَ من مات أو ينتعلَ حذاءه ولم يعد السيف سلاحاً يجلب النصر لكن في كتبه ومصحفه شفاء الروح. قال علي بن أبي طالب : ”واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لايغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآنَ أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى“.

لا تأتي الحبوةُ دون ثمن، من قلدته الأيامُ قلائدَ العزِّ لا بد أن يرقصَ فيها ومن له الغُنم عليه الغُرم. ثمن الأشياء ألا ترتعش يده ويحملها بكبرياء ومسئولية  تاركاً إياها أكبر عندما يتنحى عن عالمِ الدنيا. حينها يفرح أبوهُ ويقول هكذا أبقى وليس لكياني فناء...

مستشار أعلى هندسة بترول