آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 11:59 م

لهذا امتنعت عن الكتابة

محمد رضا نصر الله صحيفة الرياض

هذه صور قد تغيب عن أذهان الجيل الجديد من الكتاب والصحفيين.. بل المجتمع العام من الشباب والشابات، الذين ربما لا يدركون مدى المعاناة التي مر بها جيلي المخضرم، وقد سبقنا رواد الصحافة السعودية الكبار، بمعاناة أمر في تبني الأفكار التنويرية، وبذرها في تربة المجتمع الجافة القاسية..

يسألني كثيرون لماذا توقفت عن الكتابة الصحافية المنتظمة لسنوات منصرمة، منذ دخلت مجلس الشورى في بداية دورته الرابعة، لأخلف ومن دخل معي الجيل الأول من مؤسسي المجلس، بعد استئناف أعماله في عهد الملك فهد سنة 1414 هـ .. وقد شرفت بالجلوس تحت قبته لدورات ثلاث.. وبداعي الالتزام الذاتي المحض، منذ تعييني عضواً في مجلس الشورى سنة 1426 هـ ، وجدت من الصعوبة المواءمة بين دوري في المجلس، وبين ما اتبنّاه عبر الكتابة.. خفت أن يختلط ما كنت أتطارحه تحت قبة المجلس، وما أتبناه من آراء في مقالتي الصحفية.. فآثرت تركيز جهدي على العمل الشوروي.. مع علمي أن أعضاء الشورى ليسوا ممنوعين من الكتابة في الصحف، فهناك عدد من أعضاء المجلس من ظل يكتب فيها.

بعد أسابيع من عضويتي في المجلس، رحت أعزي صديقنا الراحل د. غازي القصيبي في وفاة أخيه الأكبر.. فوجدته يخرج مودعاً الملك سلمان - كان وقتها أميراً لمنطقة الرياض - فبادرني حفظه الله مداعباً كعادته الأبوية معي المستمرة حتى اليوم، إن ما كان شغبي الكتابي قد انتقل معي إلى المجلس؟! وهنا وجد د. غازي الفرصة سانحة، ليسائله مداعباً ما إذا كان دخولي المجلس مشروطاً بالتوقف عن الكتابة! فأجابه مليكنا الغالي: ومن يوقف صاحبك عن الكتابة والمشاغبة، إنه مثلك وإن الطيور على أشكالها تقع!.

ظللت مدة اثني عشر عاماً في المجلس مجتهداً في ما داخلت وأوصيت، محاولاً ما وسعني الجهد أن أقوم بوظيفتي الشورية، مخطئاً تارة ومصيباً تارة أخرى خدمة للمجتمع والدولة، دون أن تصلني كلمة لوم واحدة.

وقتها اكتفيت بتقديم برنامج سياسي مباشر على القناة الأولى، مستضيفاً أبرز الخبراء والمعلقين وأساتذة العلوم السياسية عرباً وسعوديين، مناقشاً وإياهم القضايا العربية والإقليمية والدولية.. واصلت ذلك أسبوعياً على مدى سنوات ست، انتهت بالذروة في مناقشة القضايا الساخنة أيام ما عرف بالربيع العربي، دون أن أتلقى ملاحظة واحدة.

هذا هو وضعي منذ قدمت البرامج الحوارية الثقافية، مبتدئاً ببرنامج «الكلمة تدق ساعة» سنة 1398 هـ في التلفزيون السعودي، وذلك قبل ثورة الفضائيات بعد حرب الخليج الثانية.. إثرها استضفت عبر قناة mbc سنة 1993م أبرز المفكرين والأدباء والشعراء العرب، من كافة ألوان طيفهم الأيديولوجي، بمختلف تجاربهم الإبداعية ومشروعاتهم الفكرية.

وكانت قناة mbc في بدايتها وحيدة في الفضاء العربي، إذ قدمت مئات الساعات التلفازية من خلال شاشتها الريادية، حراً طليقاً.. دون أن يتدخل في برامجي أحد.

كذلك الأمر في عملي الصحفي والكتابي منذ بدأت فوق صفحات جريدة الرياض سنة 1974م، من مقر مطابع بن ثنيان في حي المرقب.

لا يعني أن الأمر يمر دوماً بسلام، ففي عالم الكتابة الكثير من الزوابع والتوابع؛ خاصة إذا ما لا مست الخطوط الحمراء.. ولكن ما لمسته شخصياً من سعة صدر كبار المسؤولين، سيظل ميسماً مشرقاً في تجربتي الإعلامية والكتابية.

أتذكر أن تناولت ذات مقال موضوعاً حساساً، استثار دولة عربية، وجدت أنها قابلت إحسان المملكة الجميل بالنكران الممض في موقف مصيري.. فرحت أكتب موضوعاً غاضباً، تسبب في شكواي لدى الملك فهد.. وإذ استدعيت للمساءلة وقتها، إذا بالزميل الكبير الراحل تركي السديري يتلقى المكالمات المتعقبة والمتعاقبة.. إلا أن الملك سلمان وقد لمس سجيتي الواضحة وأدرك مرماي الوطني، سرعان ما اتصل به مطمئناً أنه سيسعى في أمري - فله من المواقف الأبوية الشهمة معي ما لن أنساه - وكذلك الأمير نايف الذي قرأ ليلتها بنفسه ما كتبت على مسامع الملك فهد، وقد أمر بعدها أن أعود إلى بيتي وأهلي معززاً مكرماً.. وأتذكر في آخر لقاء مع الأمير نايف في مكتبه بالديوان الملكي، كيف استعاد ذلك الموقف بكل أريحية.

هذه صور قد تغيب عن أذهان الجيل الجديد من الكتاب والصحفيين.. بل المجتمع العام من الشباب والشابات، الذين ربما لا يدركون مدى المعاناة التي مر بها جيلي المخضرم، وقد سبقنا رواد الصحافة السعودية الكبار، بمعاناة أمر في تبني الأفكار التنويرية، وبذرها في تربة المجتمع الجافة القاسية، وفي مقدمتهم محمد حسن عواد وعبدالقدوس الأنصاري ومحمد حسن فقي وحمد الجاسر وأحمد السباعي وعزيز ضياء وأمين وعبيد مدني وعبدالله بن خميس وعبدالكريم الجهيمان وأحمد عبيد وسعد البواردي.. حيث مهد هؤلاء بحسهم الوطني المسؤول، وكتاباتهم النقدية الموضوعية، وكذلك من جاء بعدهم من المثقفين والكتاب والأكاديميين.. مهدوا الأرضية الاجتماعية، والدولة تعمل على فرض الحقائق الموضوعية للتغيير الاجتماعي، في مراحل تطور المملكة بقوة القرار السياسي، فمنذ قاد الملك عبدالعزيز مسيرة بناء الدولة، وتشكيل مؤسساتها في صياغة المجتمع الحديث في المملكة، وللصحافة وقادة الرأي العام دور مشهود، في مسيرة نهضة المملكة المعاصرة.. وفي مقدمة هؤلاء لمن لا يعلم يقف في الطليعة، أعضاء مجلس الشورى الأوائل في عهد الملك عبدالعزيز.. فهم من تبنى الأفكار الجديدة وقتها، وصياغة الأنظمة التي تعمل معظم مؤسسات الدولة اليوم على ضوئها.. بل كان ذلك المجلس هو المسؤول حصراً عن السلطة التنظيمية - أي التشريعية - لا ينافسه فيها أحد.