زِيارةٌ خاصة
هي خطوات تتسلق داخل تلك القرية الصغيرة، طرقها الوعرة، شواهد على أضرحتها أو قبورها لها أسماء كثيرة، وألقاب مختلفة بين من مات شابًّا أو كهلاً، كلٌّ كان له قدر، كيف عاش؟ وكيف مات؟
بين جادة وجادة وصلت إلى قبره، أتممت سلامي بلساني ثم بيدي عندما وضعت راحة يدي على ترابه وقرأت الفاتحة إلى روحه الشريفة، تذكرت آخر يوم في حياته حينما وجدت خطواته على الرمل في حديقة منزلنا في طبعتها الأخيرة على تراب بيته أثناء قولبة رِمالها، تمتمت بالفاتحة ثم بدأت أتحدث معه، أشرح له ماذا فعل الإنسان بالإنسان من خير أو شرّ، استطعت إقناعه بأنّ غيابه كان جبرًا وليس طوعًا، مضيت في الحديث معه على أمل أن يبادلني الحديث أو ربما سئم من حديثي عن الدنيا وأفعالها حينها قررت الاستمرار بين ذلك.
وضع شخصٌ بغتةً راحة يده على كتفي، وهمس في أذني يقول: هل تستطيع الرحيل؟ بين الالتفات لم أرَ كائناً بشريًّا خلفي، وكأنّ الشروق انتهى عندما وجدت نفسي وحيدًا بين تلك القبور فريدًا وحيدًا، من كان زائراً اختفى، الالتفات إلى جميع الاتجاهات لم تفلح في وجود شخص ما، داهمني الخوف فجأةً، ماذا يجب فعله؟!
سكونٌ ليس له ظلٌّ، ولا النور الذي ولدنا عليه، الظلام داجٍ بين أركانه وكأنّ النجوم توارت عمدًا ربما تريد قهري وتغييبي، حتى القمر لم يكن موجودًا في ذلك الظلام في هلاله أو بَدره! ذهبتُ سريعًا إلى الباب الحديدي حين وجدته مغلقًا صامدًا، وضعت يدي على المقبض محاولًا دفعه إلى الوراء لكن المحاولة فشلت!
بدأ قلبي يتسلق إلى قمة رأسي، صرخت بالطاقة التي وجدها صوتي لعلَّ أحداً ما يسمع صوتي، المقبرة خالية إلا من الأموات، حاولت التسلق كالقطة كاندي التي تعيش معنا، لكنّي لم أفلح! تبيّن الجدار حينها أنه مرتفعٌ جدًّا، أين أذهب؟ ما عسى أن أفعل؟ المقبرة تبعد عن المدينة مسافة ثلاثة كيلومترات! أسندت ظهري للجدار وتاهت الأفكار في رأسي، تذكرت تلك المقولة «جاك الموت يا تارك الصلاة».
جلستُ القرفصاء واضعًا راحة يدي على وجهي أنظر من خلال أصابعي إلى القبور والظلام معاً، أدعو الله أن ينقذني سريعاً في فتح ذلك الباب اللعين، تذكرت آية الكرسي وكلّ ما اختزنته في قلبي وعقلي من سِورٍ وآيات وفصول دعاء! الخوف يملؤني... بدأت أبكي وأصرخ لعلَّ أحدًا يسمع صوتي أثناء المرور من هذه المقبرة، تستطيع أن تصف المكان بما يضمّه القاموس العربي من مرادفات: خالٍ، خاوٍ، خَرِب، كئيب. وما هي إلا لحظات حتى بدأت عيني تتأقلم مع الظلام، حاولت جاهدًا أستجمع قواي الخفية في انتصار الخوف على الظلام، لكنّ الخوف ما زال يسيطر على تفاصيل جسمي الذي ينتفض، وسؤالٌ بعد سؤال حدّثت نفسي:
هل هذا هو الموت؟
هل هذه النهاية الموعودة؟
هل أنا في البرزخ الذي يفصل عالم الحسابيوم القيامة؟
عشرات الأسئلة وإجابتها لم تدوّن بَعْدُ ربما!
تذكرت جدّي بعد رحيل والدي، في ربوع الطفولة عندما أخبرته خائفًا أنّي سمعت صوتًا، لا بل رأيت شيئًا مارًّا من خلال النافذة، ربما هناك سارقٌ في خلف المنزل أثناء الليل حيث العتمة تأخذ مكانها ذلك الوقت، أخذني بيدي وقسمات وجهه مبتسمة وقال: هل أنت خائف؟ تعالَ معي، كن رجلاً، لا تخف.. إيّاكَ أن تخاف، دعنا نتأكد! فقلت له: الظلمة شديدة، قال لي: لا عليك، دقائق وسوف تعتاد حدقة عينيك على الظلام وترى كلّ شيءٍ، وهكذا لم نجد ذلك السارق الذي لم يكن أصلاً سوى خيال مبعثر!
شعرتُ بدقات قلبي تهدأ قليلاً، أزحت راحة يدي من على وجهي أنظر إلى تلك القبور مرة بعد الأخرى، نهضت وقوفاً، حين تذكرت هناك باباً آخر يجب التأكد منه في الناحية الجنوبية، كان يجب أن أخترق هذه القبورللوصول، تقدمت الخطى أنظر بين شاهد وشاهد أسماء مختلفة، تمتمات متقطعة أردّدها بين الاستغفار والقبول بالحقيقة التي أراها، أنوارحلزونية عمودية تتموج حول نفسها متألقة بين السماء والقبور، إنّها مختلفة يعجز العقل وصفها، كأنّها تتأهب أن تجذب تلك الأجساد أو الأرواح إلى أعلى، لكن انعكاساها كان له الأثر الذي أضاء النور في قلبي والاطمئنان الذي لم أشعر به منذ ولادتي.
أخذت خطوة بعد خطوة في التأني وأنا أقرأ شواهد الأسماء المكتوبة، منها ابن عمي، والآخر صديق سامي الذي توفى مع والده عندما انفجرت أنبوبة الغاز وجميعهم داخل الغبار الحلزوني بمن فيهم أبي، يرحبون حضورك معهم.. مبتسمون، شفاههم تنطق كلمات لم أسمع مفرداتها، أخذت أنظر إلى تلك المساحة من الأرض وأنوار السماء تتبادل بعضهاً بعضاً، وقفت قليلاً أتأملهم واحداً بعد الآخر، السندس الذي يرتادونه كان هو اللباس الذي أستطيع وصفه، رأيت أطفالاً يتراقصون فيما بينهم، رأيت الرجال والنساء على شاكلتهم التي أتوا بها عند الموت، الشاب أو الكهل الذي لم يعد كهلاً!
استطاع أحد الأطفال أن يخرج من دائرة الضوء الحلزوني يرحب قدومي مبتسماً، نظراته كان تذكرني رؤيته، وضع رأسه ملتصقاً بين ساقي ورأسه في الناحية الأخرى، توكأت على قدمي أقبّله بين خديه الجملين الناعمين، أشار لي بسبّابته يقول شيئاً لا أفهمه، لاحظت نظرات أبي تتقدم نحوي بعد خروجه من تلك الأنوار المتموجة حول نفسها، رجوته أن يتقدم ويخبرني، خطواته كانت هادئة، قبّلت رأسه ثم يديه لكنه لم يتقبل أن أقبّل قدميه احتضنته مراراً، نظر الطفل لي وفعل بي كما فعلت مع والدي، ذهبنا جميعاً إلى دائرة النور حين انحنت الأنوار جمعيها علينا كأنها فرحة بتلاحمنا، لكن الأمر لم ينتهِ!
سمعت صوتاً موسيقيًّا آخر من الناحية الأخرى يدندن بنغم مؤثر وشفتاه تتحركان في موج من الألحان! اقتربت إليه وابتسامته تزداد اتساعاً، رائحته تشبه عبير الياسمين، ربما هي نفسها أو شيء لا أستطيع وصفه. قبّلت يديه ورأسه، احتضنته في خدرٍ طال وقته، إنه جدّي، عبد الرسول، فرحاً بقدومي في حلقاتهم النورية، ابتسم كثيراً لكنه لم ينطق، أمسك بطرف يدي معه إلى سفرة دائرية جميلة لا تستطيع أن تصف تلك الألوان والزخارف، ذات صبغة تراثية، عليها عطاء الله، من روائح وألوان لم أرَها من قبلُ.
أشار لي بالجلوس وهو يبتسم، تقدّم الجمع أيضاً بمن فيهم والدي والطفل الذي احتضنني، الجلوس على الأرض كان الأهم عندما التقطت أصابعهم الطعام يتحدثون وينظرون بعضهم، لم أستطع أن أفهم تلك اللغة ولا الحديث لكنهم غَارقون في الضحك والفرح، تذوقت بأصابعي الثلاثة كما يفعلون، طعاماً لم يكن طعاماً ذقته بَعْدُ، انتهى الطعام والجميع رحل بمن فيهم أبي وجدّي والطفل الجميل، نظرت إلى المقبرة وجدتها كما كانت مقفرة هادئة لا تستطيع أن ترى غير ذلك الباب القابع في زاويته الشمالية ينتظرك أن تفتحه وتخرج من هذا الحلم الذي كان...