شباك الحياة
يقولُ الشاعر بدوي الجبل:
قد تطولُ الأعمارُ لا مجدَ فيها *** ويضمّ الأمجادَ يومٌ قصيرُ
ملياراتٌ من الناسِ يأتونَ ويرحلونَ دون أن تترك خطاهم أثراً على الأرض والقليل من يحصل على بقعةٍ جرداءَ أو واحةٍ خصبةٍ في كتب التاريخ والذاكرة الأبدية لجنس البشر. تزدحم ذاكرة التاريخ بالأنبياء والمبدعين والشياطين والقتلة لكن من هم؟ يعيش كُلُّ البشرِ وفي توزيعهم يزدحمون على الذاكرة الضيقة أو لا ذاكرةَ في المطلق. يولدونَ ويكبرونَ ويأكلونَ ويشربونَ ويتناسلون، منهم المؤمن ومنهم الكافر. يمرون بسلامٍ وينساهم التاريخُ ساعةً بعد نعيهم. لعلنا نزور المدافنَ وعندما نرى صورةَ شخصٍ عرفناه من قبل نقول آه، هو ذا ولكن ليس قبل أو بعد أن نراه.
يتنحى في أطرافِ المنحنى الطبيعي للبشر الأنبياءُ والعظماءُ والمبدعونَ ويقولونَ هاهنا لنا مكان. نواميسُ الكون تحفظ ذكرنا ونحن أعمدةُ التاريخِ والموجبةُ المطلقة. وينتفي في الجانب الآخر الشياطينُ والقتلةُ والأرواحُ الشريرةُ التي أحدثت ثقوباً في سفينة الكون. تقتضي نواميسُ الكون بقاءهم ليكونوا السالبةَ المطلقة. لا يعني البقاء مع زحمة المليارات من البشر أننا لا شيء ولكن كُلُّ العقلانية تحدثنا عن التنحي نحو الطرف الموجب والابتعاد عن الطرف السالب الكلي ولو بمن زُحزح عن النارِ فقد فاز. ليس عبثاً غَزَلَ القرآنُ جُملاً عن نفوسٍ عُلويةٍ وأخرى سُفلية!
يحتاج الوصول إلى أي طرفٍ في المنحنى جهداً ومشقة لحجزِ بقعةٍ فيه فليس كل قاتلٍ يذكر التاريخُ اسمه ويلعنه الناس وليس كل سارقٍ وليس كل عاصٍ. ولن يذكر التاريخ من مَرَّ على الأرض بسلامٍِ، آمن وصلى وصام. يبقى صعوبة الوصولِ إلى الموجبة الكلية تكون في معاكسة الجاذبية وتطلب جهداً ومشقةً أكبر من النزولِ للأسفل الذي لا يحتاج أي عزمٍ أو معرفة.
من يدخل التاريخَ ربما عاش أقل ممن يَغلق عنه التاريخُ بابه ولو أُعطي أعماراً لن تتسعَ الفرجةُ للدخول. كانت حياةُ أبو مسلم الخراساني قصيرةً فقد قُتل وهو يبلغ اثنان وثلاثون سنة أو خمسٌ وثلاثون سنة فيها قضى على الدولةِ الأموية وأقام الدولةَ العباسية. يرمي الصيادونَ شباكهم في البحر يأتي السمكُ وتمتلئ شباكُ البعض في لحظاتٍ ويعودَ الكثيرُ خاليَ الوفاض تتمزقْ شباكه ولكن شباك المنجزاتِ في الحياة أكثر إنصافاً. مفتاح الدخول من البوابة يملكه كُلُّ الناس والقليل يضع المفتاح في القفل.
أعطانا الله قِرَبَ الأعمارِ وقال املؤها ذهباً أو رملاً ولا يسرق الزمنُ جهدكم في جبلِ الشباب أو وادي المشيب كلها تجري أنهراً في مسارح أيامكم ولياليكم. نحن البشر نختارُ الرملَ، نبله بالماء ونحمل منه الكثير ونسقط قبل دخول الباب. قال عليُّ بن أبي طالب :
”أَلاَ وَ إِنَّ اَلْيَوْمَ اَلْمِضْمَارَ وَغَداً اَلسِّبَاقَ وَاَلسَبَقَةُ اَلْجَنَّةُ وَاَلْغَايَةُ اَلنَّارُ أَفَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ أَلاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ أَلاَ وَ إِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَلَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ وَمَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَ ضَرَّهُ أَجَلُهُ أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي اَلرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي اَلرَّهْبَةِ أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا وَ لاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا“.
إذا غزلت لك الأيامُ شبكةَ الخلودِ وراودتك نفسك فيه فهناك في أقصى اليمينِ تكون الموجبة المطلقة خذها. اقترن بها إن استطعت أن تمهرهَا سوف يكتب التاريخ على قبرك ”هذا لي“.