أسراب السنين.. أدب الطفولة
ولد توأماً لشجرةٍ صغيرة، لا يستطيع صعودها. كبر وكبرت الشجرةُ كأنما كانا يتسابقان في الزمن. مرت السنونُ سريعاً وكان يحتضنها كل يومٍ ويقف بطولها. انتبه وقد فاقته علواً ولم يستطع أن يقفز إليها أو يطبق عليها. احتاج الى أن يرتقيها ويتكلم معها كلما هوت نفسه اللعب والغواية. تستجيب له تزهر وتثمر.
ارتفعت في السماء، صار كالعصفور بنى له عشاً فوقها. استطالت أغصانها فرحةً بالعش. بنى بيتاً فوقها يدرس وينام فيه. يهرب بمذياعهِ وكتابه يسمع اخبارَ العربِ والغرب، يقرأ أساطيرهم ونوادرهم وأدبهم. خيباتهم ونجاحاتهم. يسمع كيف يحطم الغربُ الشرقَ في ثوراتهِ وبعضُ الشرقِ كُلَّ الشرقِ في نزواته.
بنى الحمامُ له اعشاشاً فوق بيته الصغير وجاءت أسرابُ العصافير ونسجت أعشاشها بالقرب منها. كلبٌ صغيرٌ ينبح الدجاجَ في القن ويستثيرها انتقاماً من الديك الذي أبقاه مستيقظاً كل فجر بصياحه. عند تلك الشجرة عرف نبع حبه الأول الذي غازل قلبه وعينه وارتبط به رباطَ قدس. كُلُّ الأنفاسِ صارت علةَ الحياة ورحيق الزهور مداد أقلام الذكريات. كان الشبابُ يأخذهمَا نحو البقاء الأبدي. حفظ الوردُ ما كتبوا وما نطقوا وما همسوا، نقش العشبُ ما رقصوا
سبقته أمتاراً طولاً وعرضاً، لم يستطع الصعودَ في أعلاها. استظل بظلها، اضطربَ جذعها واستعرض. بقي الطفلُ فيه وعاد يلهو تحتها. يلعب وفي ذاكرته كل أيام المرح مع الصغار ولكن قليلاً قليلاً انتفى كما ينتفي الظلٌُ ساعةَ ارتفاع الشمس في كبد السماء. خطا خطاً نحو الفناء. أوصى أن يموت عندها وأن يكون قبره تحتها.
عانقها إلى الأبد، فرحت الشجرةُ بضمه إليها. صار عِرقها احمر وساقها حنطي من لون جلده وزهرها أبيض من شعره الأشيب. لم يعد غيره يعتني بها أو يصعد إلى البيت فوقها. لم تهجر الطيور اعشاشها أو الحمام ولم يغادر الكلب الحراسة، كلهم وفوا له.
انتثرت أشعاره وأفكاره فوق الأرضِ التي نبتت أشجاراً وأزهاراً يلعب فيها ويلهو أولاده وأحفاده. سمع أحد الصغار همهمة الشجرة. قالت له كُلُّ الحكايا تنتهي بالألم لكن هذه من أسرابِ السنين. كل كائن به وفاءٌ سوى الإنسان. لو كنتُ إنساناً مت ولكن ليس في الموت من جمال.
من قال أن الشجرة جماد؟ ذات يوم كان العيد ولعب تحتها، تغير لونها وصار ألواناً كثيرةً زاهية وحين زارها حزيناً يبكي سالت من أغصانها مياهٌ مالحةٌ ملوحةَ الدموع. وكانت أغصانها توازن الانشوطة كي لا يسقط أرضاً! عندما زارها آخر مرة حكت له أن الأشجارَ سبقت الإنسان إلى الحياة. قال لها ضاحكاً: ربما تسبقيني إلى جهنم وتكونين الحطب الذي يحرقني في خطاياي يوم الآخرة.
سامحه يا رب لمَ لم يتمنى أن أكون ظِلاًّ له في الجنة. جئت قبله وكنت في خطايا خروجه إلى الدنيا وفي كل هزله وجده ويريد أن يحيا وأموت! أهنئك البغض لكل ماهو حي دون وخزة ضمير.