آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الحسرة على جَمالك يا جزيرة تاروت

عباس سالم

يشعر الجيل الذي عاش ورأى جَمال الطبيعة في المزارع والنخيل والبحار التي تحيط بجزيرة تاروت بألم حقيقي لما حلّ فيها من خراب وتدمير لكل تلك الموارد...!

إن مخطط التغيير الجغرافي في جزيرة تاروت لم يكن متوقعاً أن يتم بهذه الطريقة، حيث تراجع المشروع الجمالي للجزيرة وتدمرت الكثير من الموارد الطبيعية فيها! وعلى رأسها تدمير نبع الماء من عين العودة وحمام تاروت وانهيار كل الأراضي الزراعية بعدهما، وتحويل الجزيرة إلى رقعة أرض صحراوية خالية من المزارع وأشجار النخيل وغيرها.

أي حب أكنه لك يا تاروت؟ تاروت التي أحبها كثيراً، والتي لن يسقط نداها عن أزهاري مهما هزتني الرياح..! تاروت التي تضرب جذورها عميقاً في عبق التراث، وترن في بساتينها أجراس الكلام، فيستيقظ شعراؤها كي يوقظوا العصافير والأنهار وجذور النخيل، وترتاح نفسي على خرير ماء العيون الفوارة من أعماق أرضك المعطاءة.

تاروت كيف لو كان لي جناحان لأطير مع الطيور كي أصل عسل رطبك في أعالي النخيل، وأقفَ مع الحمام على سعف نخلك وأصيح يا فاته يا بتي قبل أن أنام، وأشرب من رحيق الورد والريحان في بساتينك الجميلة حتى تسكر روحي وتهتزَّ دفوفي فأرقص فرحاً وحدي في البستان، كي أعرف حلاوة جزيرة تاروت..!

تاروت يا نيوه في بطن محارةٍ عجز الغواص في وصفها الفتان، وراح يخبر النهام كي يشجو بصوته العذب، على سفن الخير التي تجوب فوق بحرك الصافي بحثاً عن اللؤلؤ والمرجان، هي تاروت التي أدهت بجمالها من كان يمر فوق مياه بحرِها، ويناديه هواها: أنا البحر أنا نسمات نخلٍ ممزوجةً برائحة عبير الورد والريحان.

تطوف بين بساتينها فَتشجوك الطيور مغردةً ألحاناً وألحاناً، وعلى مجرى عيون مياهها تسمع خرير الماء الذي يسقي أشجار التين والموز والرمان، وتنظر إلى نخيلها فترى الحمام ينوح فوق ذرى النخل قبل أن ينام، وعلى يمينك ترى البلبل يشجو بأعذب الألحان، وعن يسارك ترى العصفور يعشعش على سعف النخل إحساساً بالأمان.

تمر على قلعة قديمة تعلو البيوت حاميةً لها من كل الغزاة، بنيت منذ آلاف السنين ولا زالت شامخة، رغم ظلم الإنسان والطبيعة لها على مر السنين! ينبع من تحت صخورها ماء فرات يَخترق سُوَر حصنها إلى حمام تاروت، الذي يلقي عليه الناس التحية والسلام في كل صباح! قبل أن يغسلوا أجسامهم فيه لتكون جاهزة للصلاة على محمد وآله في أحد المساجد القريبة منه.

لا زلت أتذكر تلك التفاصيل الصغيرة في أيام الطفولة التي عشت فيها، ورأيت كيف كانت حياة الناس في الماضي، حيث كانت أكثر البيوت مبنية من سعف النخل «العشيش» التي تظللها أشجار النخيل عن حرارة الشمس في الصيف الحارق، رأيت كيف كان الناس يعملون ويستأنسون بعملهم، رأيت العمل الجماعي بين الناس في الفريج وبين العوائل في البيت الواحد! قبل أن تفرقنا الطفرة المادية التي بعدت المسافات بين البيوت مثلما بعدت القلوب بين الأحباب!

لا زلت أتذكر القهاوي الشعبية في جزيرة تاروت مثل: قهوة مغدين، وقهوة حسن بن الشيخ، وعلي بن منصور عبدالغني، واحمد الناصري، وابو إبراهيم حجيرات، وسعيد الصديق، وقهوة ابو احمد المسحر التي كانت عامرة برجالها الطيبين يرحمهم الله، إلى ذلك الشارع الرئيسي في الجزيرة الذي يغص بالناس في ليالي شهر رمضان المبارك، لأتذكر ذلك السندويتش الذي يعده المهندس حسين أبو زيد من جانب، وسعيد إبليس رحمه الله في الجانب الآخر.

كم تمنيت لو عاد بي الزمن إلى مرابع الطفولة، إلى زقاقي في ذلك الحي الشعبي، إلى صيحة الديك فوق السطوح وبين سعف النخل، بأني سأعود لأسمع صوت حمام النخيل وهي تنادي يا فاته يا بيتي فوق ذرى النخل العالي، بأني سأعود لأشم رائحة خبز التنانير والمتين المعمول على كرب وجذع النخل لأتذكر الخبازين من أبناء ديرتي في ذلك الزمان يرحمهم الله، بأني سأعود لأرى الناس مجتمعين في السوق وعلى ضفاف حمام تاروت لأرى الناس وهم يمارسون السباحة ومختلف الألعاب الشعبية فيه.

كم تمنيت لو عاد بي الزمن إلى مرابع الطفولة لأتذكر تلك الليالي التي تهب فيها النسمات الجميلة وأغط في النوم على السطح إلى أن يوقظني الديك بصيحته الجميلة أو تحرقني الشمس بحرارتها، بأني سأعود لأسمع صوت البلبل الذي يغرد فوق الشجر المطل على حوش منزلي، بأني سأعود لأسمع أصوات الحمير والأبقار التي كانت في الماضي موجودة في كل بيت، بأني سأعود لأسمع نباح الكلاب والعواوي في الليل الهادئ، بأني سأعود لأسمع صوت خرير الماء من مجرى حمام تاروت الذي يخترق الأحياء من كل جهة ليغتسل الناس منه لصلاة الفجر.

آآآه من يرجع لنا بساتيننا ومزارعنا؟ من يرجع لنا سواحل بحرنا الجميلة؟ من يرجع لنا أطلال ديرتنا التي كانت شامخة واليوم تعانق التراب؟ من يرجع لنا نبع عين العودة وحمام تاروت وباقي عيوننا الطبيعية التي دمرت ليتعلم صغارنا السباحة فيها مثلما تعلمناها؟ ونسأل تاروت كيف كنت وكيف أنت الآن؟