رقمان
يبقى أقل من واحدٍ في المئة من البشر على الأرضِ أكثرَ من تسعٍ وتسعون سنةً، قليلٌ منا يحصل على عمرٍ من ثلاثة أرقام. اجتذبنَا نحنُ البشر نارُ الرقمِ كالفراش وأخذنا منذ القدم في ابتداعِ الوسائلِ والبحث عن اكسيرِ الحياة الذي يضمنُ لشاربه حياةً أبديةً أو شباباً لا يعتريه المشيب. إلى الآن ما تطامنَا وما سكنت رغبتنا ننادي أينَ الاكسير ونصرفُ الآحادَ والعشرات من رقم العمر كأنها تذهب وتعود عندما نكتشف الاكسير!
ليس المهم ما هو الرقم ولكن ماذا نعمل وماذا يبقى بعد احتفال النعي. ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾. عاش فرعونُ خاناتِه العمرية وجرفته سيولُ العظمة إلى مدافنِ النسيان واللاشيء وعاشَ قارونُ ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾. مضى قارونُ ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾. لم يذكر التاريخُ أن فرعونَ أو قارونَ تركا علماً أو بنيا إنساناً أو عمرا أرضاً ولكن كلاهما عاشَ غوايةَ المال ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾. كان في حينها يعيش موسى أرقامَ عمره وعقلهُ مكتظاً بالحكمةِ يهزأُ بالمالِ والسلطة التي تطارده ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
عاش لقمان أرقامه ولم يملك القصورَ والصروحَ والمال والأنا ولكنه بنى الانسانَ وبقي يسمعه من في الوادي ومن في القمة ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.
في مروجِ أرقام الدنيا أَزْهِرْ بالمالِ وأورق بالحكمة. خيرانِ عزَّا أن يجتمعا في شجرةٍ واحدة. من ليس لديهِ مالٌ يموت ومن ليس عنده حكمةٌ يقتل نفسه وغيره، فلربما لو اجتمع المالُ والحكمة لم يمت أحداً! إن درهماً دون حكمة مثل السم الزعاف الذي خالطه عسل يقتلُ آكله.
نواميسُ الحياة لا تعطينا ما لم تعطيه لغيرنا، إن كانت الارقامُ ثلاثة فلن تكون أربعة. ليست حكمةُ الارقام المتعالية قَلَّت أو كثرت سوى معرفة أن بالمالِ نعيش وبالحكمة نحيا ونملأَ دلوَ سني أعمارنا بين الواحد والمائة بما لو جاءَ يومُ الهجرة أن تبكي علينا الأرضُ والسماءُ في شعورهما الخفي اللامحسوس ويبكي علينا أهلُ الأرضِ والسماء في شعورهم الحقيقي.
أيها الإنسان عش في هضبات الدنيا وتلالها، تمتع وتذكر أن الرب أعطانا أرقاماً متناهية في أيدينا وأبقى دالةَ الارقام اللامتناهية في يده يصارفنا بها ذات يوم، حينها نرفع أيدينا ونقول هذا هو الاكسير.