محاولة تخطي الأمر
حين نريد التحدث عن تجربة ما تعاظمت في رأسنا، وأصبح من الصعب ابقاءها مخنوقة من غير أن نطلقها لتتنفس، وأن نمنح تلك التجربة أو التجارب فرصة أن تكون في وضح النهار بدل أن نسدل عليها ستار الليل، إذ يطيعنا التردد وفق هواه وتؤرقنا اللوثة الناجمة عن عقد بعض الأفراد في المجتمع، فلا يمكن أن نحكي تجربة تعرضنا لها إما مرضية أو وظيفية أو دراسية أو اجتماعية أو ثقافية وغيرها، إلا ونضع اعتبارا عظيما لما سيقوله من حولنا، وما ستؤول علينا تلك الأقاويل، وكيف ستصبح الشعلة حريقا بين أكوام من القش؟ وقد تخدش تلك التجربة نصيبنا من الرزق نتيجة تناقلها بشكل مبالغ به.
تلك المخاوف الدفينة التي يحملها كما أعتقد، أيُّ راغب لنقل تجربته الذاتية، فقبل الشروع في قراءة أي تجربة وبلورتها وفق أهوائنا، علينا أن نتفهم أن من سعى لسرد تجربته له هدف وغاية سامية وأيضا تنبيه وتوجيه ومشاركة وجدانية لمن مرَّ بنفس الوضع، ومن خلالها يتخطى الكثيرين ثقل الألم والبعض يجد أجوبة لتساؤلاته، كله من واقع تلك التجارب أي كان نوعها، ستقدم الخدمة المنشودة.
وربما تكون تجربتي خطوة ملهمة، تساعد أي فرد قد عانى نفس العلة. منذ أشهر تقريبا مررت بضغوط اجتماعية عميقة أثرت في النفس والروح والجسد، أولها في وظيفتي التي لم أستطع أن أطيل أكثر من سنتين حتى قدمت استقالتي، وفاة أقرباء لي بالسرطان أدخلي في حالة وجدان عالية، بعض الظروف العائلية المتقلبة، خلاف مع صديقة قربتها من نفسي وقلبي أنهك كل قواي حتى الفكرية، حتى بدأت أفقد نفسي وشعرت بالبؤس والاحباط العميق ساهم ذلك كله في خلق التوتر لديَّ، بعد عدة أيام من كل ذلك لاحظت صداعا كقرع الطبل من الجانب الأيمن خلف رأسي وتشنج في الرقبة، لم أعر الأمر اهتماما واعتبرت ذلك الصداع القاسي سببه الارهاق والتعب، لكن الصداع تفاقم وكان لا يطاق بشكل مريع، صبرت لمدة أسبوعين وأخذت مهدئات عسى أن يزول لكن لا فائدة تذكر، وبإصرار من عائلتي أن أزور المستشفى لأتفقد صحتي وتحت وطأة الحاحهم رضخت لمطالباتهم.
حين قياس ضغط الدم فاجأتني الممرضة أن ضغط دمي مرتفع جدا، كيف أصف شعوري تلك اللحظة ففي العقد الثاني أو الثالث من أعمارنا لا نتوقع أن نصاب بأمراض الضغط والسكر، ولأنني أكره الأمراض وأخشاها استوحشت وضعي الجديد، حين دخولي عند الطبيبة كان أول شيء نظرت إليه عمري وقالت: المفترض في عمرك الصغير هذا أن لا تكوي مصابة بالضغط، لذت بالصمت حيال ردة فعلها مستذكرة كل ما مررت به فابتسمت بمرارة، ولقد لاحظت ذلك.
قدمت الطبيبة الكثير من النصائح وركزت بشكل كبير على الابتعاد عن مسببات القلق والحزن وكل ما يرفع وتيرة الغضب وترك الأشخاص الذين يجعلون كيانك في حالة اعصار أو يهيجون مشاعرك بالتوافه ويصنعون الخلافات بحدة طباعهم وعنجهيتهم، البعد عن مواطن الصخب والفوضى والأضواء الشديدة، ممارسة نشاط بدني حتى يخفف وتيرة ضغط الدم ويمنحني الاسترخاء، اختيار الأغذية المفيدة والتقليل من الملح، وخلال تلك النصائح حكت عن موظفة جرت بينها وبين مديرها مشادة كلامية لم تستطع الموظفة أن تفرغ ما في قلبها لتتطور المسألة إلى ارتفاع في ضغط الدم، قالت وهي تنظر إليَّ بنظرة جادة: الحياة بها الكثير من الضغوطات لا تبالي للكثير وتحملي فوق قلبك زخما لا يطيقه. حينها طلبت مني أن أتحدث عما يضايقني فتحشرجت الكلمات أثناء حديثي وفاضت مقلتيَّ واحتقن وجهي بدمائي، قالت بنبرة متعاطفة: يمكنك أن تبكي وأن أنتظرك، كان لطفا وكرما منها أن تمنحني تلك الفرصة التي كنت بحاجة إليها ساعتها، لكن للأسف تقهقرت الدموع دون عودة.
اتبعت التعليمات بحذافيرها مع العلاج وخلال عدة شهور تخطيت المرحلة الحرجة من ارتفاع الضغط ليعتدل وضعه، لكن صداع الرأس لم يبارحني ليكون أعلى الرأس، فعاودت زيارة المستشفى وطُلب مني عدة تحاليل، بعد معاينتها تأكد وجود فقر دم حاد ونسبة الحديد سته فأوصيت بأخذ كبسولات فيفول تساعد على تقوية الدم وتناول بعض الفيتامينات مع أخذ ملعقة عسل أسود على الريق، لم أجد خلال شهر أي تغير ملحوظ وتفاقم صداع الرأس ليشمل الجبين والصدغين وتشويش في النظر حتى قطعت قراءة الكتب التي كانت هوائي الذي أتنفسه لعدة شهور، لذلك قررت أن أتوجه لطبيبة العيون، بعد الكشف أطلعتني الطبيبة أن العصب البصري متورم وملتهب بشدة ناجم عن ضغط شديد على الدماغ وهي تحتمل إما ورما أو زيادة في ماء الرأس، طلبت مني أن أستعجل في علاج المشكلة وحولتني إلى مستشفى أخر ليجري عليَّ الرنين المغناطيسي وتشخص وضعي طبيبة الأعصاب.
لم يكن الأمر هين حين وضع احتمال ورم في داخل رأسي ويدغدغ دماغي المزدحم بالكثير من الأعمال التي رغبت بإنجازها خلال تلك الأشهر السقيمة، تعطلت الكثير من الطموحات وتوقفت عن انجاز أكثر الأشياء التي أحبها قراءة الكتب وزيارة المعارض وانجاز بحث علمي للمشاركة به بإحدى المسابقات، ليأتي ورم نكد جعلني أركن إلى نكده وأنزوي بعيدا عن العالم، لأجد نفسي بين الدعاء والنذر لآل بيت رسول الله الأطهار، لم يعد هناك شيء يستحق أن أعتني به سوى صحتي، فلن تجد خلال ذلك الوضع الصعب من يسندك ويرفق بحالك إلا الله عز وجل وعائلتك ووالديك واخوتك وأخواتك ولن يكون حولك إلا هم، ولن تجد من صاحبتهم وقضيت معهم أوقات من المرح بجانبك.
توكلت على الله وتم الكشف على دماغي بالرنين المغناطيسي ثم دخولي على طبيبة الأعصاب مترقبة بنفاذ صبر الخبر المشؤم الذي سأتلقاه، كانت الطبيبة تتأمل الشاشة وتتمعن، التفتت بهدوء تشرح لي الوضع الحاصل، ولأن التشويش سلب مني قدرة السمع، قلت للطبيبة كيف عرفتي، قالت يبدو أن الشرح لم يصلك جيدا، أعدت عليها نفس السؤال، فأجابت مستغربة ألا ترين إنني أنظر لدماغك عبر الشاشة ولا يوجد ورم والحمد لله، انما السائل الذي حول الدماغ زائد عن المعدل الطبيعي والسبب عدم تصريفه من خلال الحبل الشوكي، ولا يوجد لها تفسير طبي، كنت ذلك الوقت بين الصدمة والاستيقاظ منها، لذلك تابعت قائلة لديك خيارين إما نقوم بخزعة أسفل الظهر ونسحب الماء وتكونين في حالة تخدير أو تأخذين أقراص دواء وهي تتأخر في مفعولها، وفاقت على الخيار الثاني رغم تشجيعها لنا أن بالخيار الأول، وتناولت دوائي بانتظام وحرص حتى تغيرت حالتي للأفضل وبدأ نظري يعود لوضعه الطبيعي ولازلت منتظمة على علاجي.
كانت تلك التجربة المرضية رغم صعوبتها وألمها علمتني أن أتخطى الأمر بصبر وروية، وأن أستوعب أن لطف الله وكرمه عند كل صعب، وأن عائلتك وقت محنتك ولن تجد من صحبتهم وقتها، وأن بعد العسر يسرا وفرجا، الكثير يستحي أن يتكلم عن علله الجسدية أو لا يجد حاجة لذكرها، لكن المسألة اذا تأملناها من الزاوية الأقرب ندرك أن التجربة الفاشلة أو الناجحة أي كان نوعها تقدم شيئا للبشرية، عبرة أو فكرة أو نتيجة.