الماء والخبز
رفعَ إبراهيمُ الخليل كفيهِ ووجهَ روحهُ نحو ربه ونادى ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾. بدأ الخليلُ بوصفِ المكان بأنه قليل الزرع ولعل الماء ما كان يحتاجه الزرع حتى ينمو. ولم ينس أن طلبَ من الربِّ أن يرزقهم الثمرات. جاءَ الماءُ في زمزم وجاءت بعده الثمراتُ ومن ثم جاءَ الناسُ تهوي أفئدتهم وأقاموا الصلاة.
في قطعةِ أرضٍ عمرتها كانت خاليةً من كُلِّ حياةٍ سوى ما أودعهُ الإنسانُ في داخلها من بقايا صخورٍ ساعدته على التمدنِ والتحضر في إحياءِ البناء وقتلِ الأرض بعد نهبِ ما في داخلها من خيرات. لا يأتي المطرُ وليس من شجرٍ ولم يكن لأي كائنٍ بها هوى. لكي استصلحها جلبتُ الماءَ ومن حيث أدري جاءت الطيورُ وطابَ لها ما تجد من ماءٍ وظلال. تؤنسني شقشقتها في الصباحِ فكم يألفِ الإنسانُ الطيرَ والوحشَ ويفضي إليه بأسراره ويبتعد عن البشر! ليسَ وحيداً من يخلو بنفسه بل الوحيد من اعتزلَ الفكر. لا يكتشف المبتكرون إلا في صمتِ المعامل ولا يبدع الفلاسفةُ إلا في سكونِ اللسان.
ذكر ميثمُ التمار أن عليَّ ابن ابي طالب «ْع» ذهب معه في بعضِ ليالي الكوفة الى مسجدِ الجعفي فصلى ودعا ثم خرج إلى الصحراء وهو يتبعه فوجده مدخلاً رأسهُ ونصف بدنه في جوفِ بئرٍ ويتكلم معه، فلما أحس به قال: من أنت؟ قلت: ميثم، قال: ألم آمركَ ألا تتجاوز الخط؟ قلت: يامولاي خشيت عليك من الاعداء فلم أملك نفسي فخرجت في أثرك. قال: هل سمعتَ ما كنت أقوله: قلت: لا يا مولاي، فقال: يا ميثم وفي الصدرِ لباناتٌ إذا ضاقَ لها صدري نكتُ الأرضَ بالكفٌِ وأبديتُ لها سري فمهما تنبت الارضُ فذاكَ النبتُ من بذري.
كافأتها بقطعِ الخبزِ التي بقيت مما يفيض عن حاجتي أنا الإنسان، أبتاعُ ما لا أستهلكْ وأبني ما لا أسكن. جاءت ولم تخيب رجائي. حضرَ العصفور والحمام البري، يأكلونَ الخبزَ ويشربونَ الماء. هل يكفي الماءُ والخبزُ الإنسانَ ليحيا؟ يستحق الإنسانُ كل الحياة التي أعطاها إياه الرب وهو سبب وجودها. من قال أن الحياة تأتي في درجاتٍ من مطالبِ الإنسان، إنها مجتمعةٌ في محور الانبساط. لو أعطيته الخبزَ والماءَ وحبسته مات، لو أعطيته المالَ وأخذت الأمنَ منه مات.
هذا الإنسان الذي يستحق الحياةَ كلها عندما يملكها يأخذها من غيره، من الحيوانِ والطير والأرض والبحر والسماء ولا يستثني من ذلك أخاهُ الإنسان. عجيبٌ ذلك المخلوق! طوع الدنيا بكليتها ولم يطوع طباعهُ ليكونَ عبداً شكورا.
ايها الطائر السعيد عنوان منزلي الخامس من اليسار بعد اليمين. البيتُ الأوحد الذي أمامهُ ثلاثُ شجراتٍ. إن أردتَ الظلالَ والماءَ والخبزَ لا ضررَ ولا ضرار. لك ذلك فقط لا تسلح، يكفيني ما تلقيه عليَّ الحياةُ من ذرقها كل حينٍ من اليسارِ ومن اليمين. أيها البشر خاصم نفسكَ في أرضك، خذ منها الكثيرَ واعطها القليل. اتركها قابلةً لبقاءِ من يأتي بعدك.