في اليومِ أو غدٍ
ما فتئَ العصفورُ الذي ينظرُ من نافذتيَ الزرقاء العاكسة ويرى عصفورةً تحبه أو عصفوراً ينافسه يأتيني في الصباحِ وفي المساء. آنسُ بزيارته في شهرِ آذار الجميل. ذهبَ بعضُ الحذرِ منه وأصبحَ يسمح لي بالقربِ قليلاً دون أن يفر لكنه لا يزال يضمر في نفسهِ ريبةً من الإنسان.
انا بطبعي أحاولُ جهدي الإمساكَ به وحبسهِ في قفصٍ أشتريه. لن يستطيعَ تقليدَ الاصواتِ ولن يشتريهُ أحدٌ ولكنه سوفَ يصدر صوتاً من قلبٍ جريح أحسبهُ صوتَ الفرحِ بالحَبِّ وفتاتِ الخبزِ الذي أعطيه. انا سوفَ أسلبهُ الحريةَ ولكن سوفَ أحميهِ من أبناءِ جنسهِ ونوعهِ وسوف يحبني لأنه لا يحتاج أن يجهدَ نفسهُ بحثاً عن الماءِ والغذاء.
أنا الإنسان ذي العقل الكبير لا أنفك أفكرٌ في صغائرِ الأمور حتى الزرزور الصغير! فتحت البابَ ودخلتُ الحجرةَ دون أن يراني. جاءَ واقتربتُ منه مسافةَ القدرِ من المقدور والحياةَ من الموت. لم يرني ولكنه سمعَ طقطقةَ النافذةِ وطار. غداً سوفَ أبتكرُ حيلةً أخرى لا يستطيع أن يفك رموزها.
كلما زارني العصفورُ سألتُ نفسي لم يشغل الإنسانُ عقله وتفكيرهُ بحب السيطرةِ والسجنِ والحبس ولا يشغل نفسه بالنقيض والحرية والعطاء، ألا تكفيهِ نفسه! هل خلقه الربُ والطبع معاً فلا يستطيع نفي الطبع منه. ألم تنهاه الرسلٌ والأنبياءُ عن مسايرة طبعه؟ خلقه الربُ وضمن له رزقه وقال له فقط امشِ وخذه ونهاه عن المشي لأرزاق غيره. ابتكر أسماءً جميلةً لصفاتٍ فيها من القبح ما يكفي. يبتكر السلاحَ والدمار ويسميه دفاعاً ويحجب رزقَ غيره ويسميه منافسةً. ويقتل غيرهُ لكي يجعلهُ ”حراً من الحياة“.
انصحكَ ايها العصفور ألا تصاحبني وتأنسَ بي كثيراً وتتذكر أنني من جنسِ البشر. غداً أو بعد غدٍ اصطادك. لا تخف سوف اشتري أجملَ الأقفاص والمحاكر وأنقى الحَبِّ وأصفى الماء. سوف أبحث في قواميسِ اللغات لأجدَ صِفَةً تناسب فعلي الجميل. إن لم أجد في حمايتي لك التي سوف تطول ثق أنني سأخلق واحدةً من الماضي أو من استشرافِ المستقبل.
لن انسى بعد صيدكَ أن أتوضأَ وأصليَّ ركعتينِ شكراً للرب على الرزقِ الصغير الذي أدعو أن يمنحني منه المزيد وألاَّ يجعل لبشرٍ ممن خلق نصيباً منه، انا البشر. مخلوقٌ لم يستطعْ عشراتُ الآلافِ من الأنبياءِ والرسل وأضجرهمْ أن يمتثلَ أو ينزعَ ظلمةَ الروح والظلم. لابأس أن يذكرهم وأن يصطفَ خلفهم ويناجي اللهَ في الليلِ بأسمائهم أن يطيلَ في عمره ليزرع في الأرضِ الواسعة حقولاً من المناحات باسمكَ يا رب...
سامحني أيها الرزاق، أنا واحدٌ منهم سوف أعودُ إلى حقيقتي بعد قليل. أنا لم أزرهُ في عشه أو أطلق النارَ عليه. هو جاء بجناحيه. هو التاركُ كلِّ الحقولِ الخضراء في الدنيا والواحاتِ الوارفة والذي اختارَ أرضيَ ذاتِ الرملِ والعشبِ القليل. لمَ لمْ يطيرْ! بعدَ أن أصطادهُ سوف أتوب.