اصمتوا
اصمتوا أيها البشر. كلنا أصبحنا السنةً بلا آذان. نتكلمُ ولا نقول شيئاً. دعوا الجماداتِ والنباتات والحيوانات تتكلم. نتهمُ النباتَ أنه لا يسمع ولا يتكلم ولا يحس ولكنه ينمو ويكبر ويثمر ويموت عندما نقتله. والجماد لا ينمو ولا يتألم وليس له من مظاهرِ الحياةِ والجمالِ إلا ما وهبناه. كيف وهو يبقى ويزداد جماله عندما نذهب ولا يسمع أصواتنا. الحيوانُ غير ناطقٍ أو عاقلٍ ولكنه يخاف ويفرح ويحب وقلبه لا يغش.
ماذا أعطينا الكونَ بكلامنا! عندما ننطق تنطق رغباتُنا وشهواتُنا بأن نرى غيرنا يصمت ونبقى نحنُ المتكلمون. ينفثُ الشيطانُ على الكثير من ألسنتنا البغضَ والكراهية. كلماتنا حادةٌ كالرماح وحاميةٌ كالنيران. ألسنتنا وأقلامنا لا تتوقف عن الثرثرة.
لندع كل شيءٍ في الوجود يتكلم سوانا. نأتي إلى الدنيا ونملؤها صراخاً منذ ولادتنا حتى الموت وعندها يطلب منا الكلام ونعتذر. لو صمتت ألسنتنا نطقت أرواحنا وتفكرت عقولنا وأحبت قلوبنا. في الصمتِ يجعل لنا الرب آيةً من آياته كما جعل لنبيه زكريا حين أمره ألا يكلم الناس ثلاثَ ليالٍ سويا. يصمتُ اللسانُ حين يشتغل العقلُ بالتفكير والإبداع واليدُ في العمل والقلبُ في حبِّ الإصلاح بين الناس.
اجتمع حكماءٌ في تأبين ملكٍ من الملوك وقالوا فيه الكثيرَ ولم يقل أحدهم أبلغَ من كلماتٍ قليلة ”هذا الذي كان يعظنا بكلامه أصبحَ اليومَ يعظنا بسكوته“. ننصحُ الناسَ بكلامنا فلنجرب موعظتهم بسكوتنا، هم لصمتنا أكثرَ إنصاتاً من أقوالنا. لنجعل أفعالنا أكثرَ بهاءً وأعلى نبرةً من أصواتنا.
ما حذرنا العقلاءُ من جارحةٍ فينا أكثر من اللسان. هو يفسر ويعبر عن مكنوناتِ عقولنا وأحاسيسنا، به نملأ الدنيا خيراً أو شراً. أوصى الإمامُ علي ابنه محمد بن الحنفية: ”وما خلق الله عز وجل شيئاً أحسنَ من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضت الوجوه، وبالكلام اسودت الوجوه، واعلم أن الكلام في وثاقك“.
لو حضر الذين وعظوا البشر من مخاطر اللسان والكلام لقالوا أهون أدواتِ الكلام اللسان. أقلامنا تتكلم، قراطيسُنا تتكلم، أدواتنا تتكلم، لم ندع لجمال الصمت مكاناً. كلمتنا آلة القتل متى ما خرجت من خواطرنا تصل كل مكان.
كان الكلام يرهقنا ونحتاج الى عقلٍ يخرجه عن لساننا ولكننا استعضنا عنه بلوحٍ جامد يأخذ الأوامرَ والنواهي من أصابعنا، نقول ونكتب ما نشاء عمن نشاء وفيما نشاء. قديماً ليس كل ما قيل يكتب أو يحفظ إلا إذا كنتَ نبياً ولو كنت نبياً ليس كل ما تقول يبقى والآن كلام الجاهل والحكيم يبقى دون زمن فإن كان دُرةً أضاءت مدى الدهر وإن كانت فتيلاً ظل يُشعل الحريقَ مدى الدهر. كلماتنا وأصواتنا لا يمكن التملص منها والقول خان الرواة...
لنصمت إلا عن الحكمةِ ومعرفة أسرارِ الكون ”وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ? إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ“. قالوا أن قبح صوت الحمار ليس فقط إرتفاع الصوت ونشازِه بل لكون الحمار يطلقُ صوتهُ دون سببٍ أو حاجة أحياناً.
سامح ضعفي يا رب، طلبتُ من الناسِ الصمتَ ولم أصمت. أنا سمعتُ صوتَ طائرٍ ينقر زجاجَ نافذتي ويتكلم عن خفايا نفسه، كتبتُ كلماتي وأنا أسمعه...