آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

أجراس الحياة

في الصفوف الأولى من الدراسة كان المدرسُ القادم من أرضِ فلسطين الذي نفاه الغزاةُ من أرضهِ التي كان يقف على ساحاتها ويمشي في أزقتها ويزرعُ أشجارَ زيتونها إلى الأردن بجرسٍ يهزه بيده ليعلمنا الصغار أن الفسحةَ بين حصتين قد انتهت أو أنَّ اليومَ الدراسي قد بدأ. رباهُ كم كرهنا صغاراً كُلَّ الأجراسِ سوى جرس الفسحِ ونهاية اليوم الدراسي. لا يعرف الصغير من المدرسة إلا الاصدقاءَ والمرح. كان عذرنا في الهروب من الوقت أننا لم نسمع الجرس.

تطور الجرسُ إلى جرسٍ كهربائي يرن في ساحة المنزلِ الصغير المستأجر وليس بإمكانك الهروب منه. صوته يعلو صوتَ الطالب الصغير ينشد في إذاعة المدرسة. صارَ المدرسُ مدرساً بعصاً غليظة، لا مهرب من الحضور أو العقاب. بقيت الاجراسُ معنا حتى الفصول الجامعية حينها غابت في حقيقتها ولم تغب في رمزيتها. كبرنا وعرفنا أن الحياةَ كلها أجراسٌ ترن وتصك المسامع تعلمنا أن فصلاً انتهى أو فصلٌ بدأ ولا تصدر كلها صوتاً أو ضجيجاً.

تُعْلِمُنَا الأجراسُ في المقاعد الدراسية وفي التخرج من الدراسة وفي الزواج وفي العمل وفي ترك الوظيفة وعند تغير شيءٍ في زقاق الحياة بأن الحصةَ الممنوحة انتهت وما بعدها بدأ. لا يهم وقت الابتداء والانتهاء ولكن ما هو المهم ماذا أنجزنا بين جرسيْ الامتحان. كنا نأخذ الامتحانَ في ساحةِ المدرسة في الصفوف المتوسطة والمراقب يطوف يدق الجرسَ يذكرنا بما بقي من زمن الامتحان. تزداد ضرباتُ القلبِ وخفقانه عندما يقول بقيَ خمسُ دقائق. أليست هذه هي الحياة الصغيرة!

ليس فقط في امتحان مراحل الدراسة الاولى يخفق القلب وتتمنى أن تكون الورقةُ دسمةً بالاجابة الصحيحة ويعيدها المصحح وبها دائرةً باللون الأزرق بداخلها رقمٌ كسري 30/30، كم يهيم القلبُ من الفرح. لا تنتهي الفرحة إلا حين تعود إلى البيت الصغير وتقول لأمك حصلتُ على العلامة الكاملة. قد لا تعرف أمك أن تقرأ الرقمَ ولكنها تقرأ تعابير الوجه إن كنت صادقاً أو كاذباً. ليست الأم سوى الحياة عندما تكبر وتموت أمك الحقيقية، تقف لك الحياة عند كل منعطفٍ وتسألك عن نتيجة الامتحان. لا تستطيع الكذب، هي تعرف كل شيءٍ وتبني عليه ما بعده.

بعضُ الأجراس ممتعةٌ ونعشقها، جرسُ النجاح وجرس الربيع وجرس الحب وبعضها أجراسٌ نبغضهَا، جرس الشيبِ وجرسُ الرحلة الأخيرة. ليس نحن من ندق الأجراسَ في كل الوقت ولكننا من يؤدي الامتحان في الحصة ومن نعلقُ الجرسَ على صدر الأيام. هبة الله لنا تعاقب التذكير، ليلٌ بعده نهار، ظلامٌ بعده ضياء وشتاءٌ بعده ربيع وكم هي مدة الحصة المعطاة لنا.

كان أجمل الأجراسِ دون شريكٍ عندما نصطف جالسينَ صغاراً في ساحة المدرسة الصغيرة يخفي أحدنا شيئاً خلف أحد الجالسين وهو يجري صائحاً ”طاق طاق طاقية“ ونحن نرد ”رن رن ياجرس“. لم يعد أحدنا جالساً الآن، كل الجالسين قاموا.

قم انت واستقبل الربيعَ واستمع إلى أجراسِ الحياة تنشدها وتروي فصولها لصغارك عندما تكبر وتزهو بأن المحصلة كانت تملء أعالي الصفحة البيضاء تحكيها أمك لنساء الحي عند المساء.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 27 / 2 / 2018م - 6:51 ص
حقيقةٌ أجراس الحياة لاتكاد تهدأ في هذا الزمن المتسارع ، نسأل الله أن لايدق جرس الحصة الأخيرة من الزمن وإلا وقد ملأنا صحفنا بالأعمال الحسنة ، أدام الله هكذا فكر .
مستشار أعلى هندسة بترول