أهم شي مستانس
همسة: حلمت أني أبلغ من العمر خمسين عامًا حينها تغيرت نظرتي للأشياء، انتابني شعور، يتسم بالوقار والرأي السديد. للأسف لم أكمل الحلم، جلست عنوة من النوم، لأراني كلمات، عنوانها «لازلت أحلم».
كعادته، في زيارته لمجلس العائلة، صلة رحم يقوم بها، بين وجبة العشاء، الذي يتناولها كل ليلة جمعة، ذات ليلة، سمع جملة «أهم شي مستانس»، تعجب لكثرة استخدامها من الحاضرين، سألهم حين فجأة من اللحظات عن مغزاها، لتأتي الإجابة عفوية الظل، بأنها كلمة تتوارد على لسان أحدهم دائمًا، فتح الباب، سأله بعد السلام، كيف حالك، أجابه: أهم شي مستانس "، ضحك الجميع، وهو معهم. خرج بعد وقت من المجلس، لم تفارقه الجملة، اختزلها في ذاكرته، اخترقته الأسئلة في فضائها، استشرف كنهها، بيئتها، ماهية الاستئناس برغم الآهات، وما تحتويه الحياة. وعليه وبعد تفكير متسع الأفق تأكد بأن الصديق الوفي، هو الذي يبين الأمور مجردة من التلميع، ليجعلك مبصرًا لا تشوب بصيرتك الضبابية، ليعيشها حالة أريحية، يتأرجح بين انعكاسات الألوان، ليبقى اللون المفضل لديه، يحكيه ويحاكيه.
بقالة العم «أبو أحمد» بجوار منزلهم، أراد ارتشاف عصير من البرتقال، هكذا أراده باردًا، توجه ناحيتها، ابتاع العصير، حرك أصابعه، ليفتحه، ليرشفه، توقف، رفع حاجبيه باتجاه غيمة زرقاء، مثقلة بقطرات المطر، رشحات تأملية بذاته، استرجاع الذكريات، غربلتها، كهمس، يهمس في زوايا السمع لديه، إن الحياة تعلم الإنسان يغمض عينيه عن بعض الأمور، خصوصًا حين تجيء من إنسان يرى ذاته ذكيًا أكثر من غيره، فاهمًا أكثر من غيره، برستيجه أنقى من غيره. يقول ويل سميث: " قمة المتعة أن تجالس شخصًا يغتابك كثيرًاً - ومع ذلك يبين لك العكس -، هذا كافٍ بأن يخبرك أن لحضورك هيبة قادرة على تحويله لمنافق جبان، فأنا لا أذكر أني أستيقظ في كل يوم بهدف أن أثير إعجابك. ثمة ما يغري على الهرولة وراء استحسان الآخر، انجذاب كلماته الإطراء، تلذذ يحتوى، وإن كان من خلال البعد عن القيم والمبادئ، لتصبح السلبية إيجابية، ليمارس الإنسان، الإعلان عن نفسه، تسويقها، في حين أن دغدغة المشاعر، في انحناءة الظل، بين خيوط الشمس لظى. لذا منطقيًا أن لا يجعل الإنسان سقف طموحاته أكبر من حجم الكفاءة لديه، الطموحات معولها الإمكانيات حتى لا يقع وينكسر، لا تكن المجاملات زاده الذي يدفعه للأمام. من يسلك طريقًا أعرجًا، سعيًا في استشراء لذة «الأنا»، كأنما هو جالس على مائدة شواء، لا نضوج فيها، حتمًا سيتعثر ولو بعد حين. لا يؤكل الشواء إلا بعد نضوجه، حتى لا يصاب - الإنسان -، بوجع في بطنه أو «مغص»، ليبتعد كل البعد عن لغة التسويق في بوصلتها الأنانية.
إن الإنسان طالما يمدح ذاته ويستنقص الآخرين لن ينجز إبداعًا وإن وضع بين دفتيه قرطًا من ذهب. الإنجاز وحده من يتكلم عن صاحبه المنجز. وعليه تأتي الحالة النقدية بكونها اختراقًا استكشافيًا للنص، ينغرس فيه، كباحث لم يدع زاوية لم يتفحصها، ليخرج بمادة نقدية، تتمتع بالنضج وليس لغة تسقيط للنص وألفاظًا بذيئة أخلاقيًا وأدبيًا. أذًا لا ينبغي النظر للأمور من زاوية واحدة، ليتم إقصاء الآخر بلا منطقية، ليوصف بمختلف الأوصاف بعيدًا عن الواقعية. هكذا عقلية لن تنتج إلا الفراغ. إنه لأخلاقي لا يستصغر الإنسان غيره، فإن العاطفة شيء والمنتج الذي يقدم شيء آخر، والمجاملة تقصم الظهر. ينقل عن «وودي آلن»، قوله: لا أهتم بأفواه البشر ولا تعجبني أجواء المجاملة، إن أحببتك سأخبرك وإن كرهتك لا أراك.
عند العقلاء، تتضح الترهات بأنها، مجرد نكات تبعث على الضحك، يستذكرونها بين الفينة والأخرى. الغرور آفة الذين ذواتهم فارغة، يمارسون التهكم على الآخرين، ليشوهوا الصورة الجميلة التي رسمها لهم الآخرون، يحصر «تولستو» السعادة في ثلاثة أشياء، هي: شيء تعمله، وشيء تحبه، وشيء تطمح إليه. كثير من الأمور حين تبصرها، تجعلك عطفًا، تستجدي اللغة، التي مفادها 1 + 1 = 2، وليس 1 + 1 = 3. البعض لديه من الغرور ما يجعله لا يبصر غير ذاته. التواضع من شيم الكبار، كلما ازداد الإنسان معرفة، ليكن مبدعًا، نموذجًا يحتذى، فإن التواضع زاده الذي لا ينضب، وإن اعتراه الجفاف، لن يبصره الآخرون. ختامًا يعلمنا الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله -، فلسفة نكون من خلالها بكلنا استئناس وراحة بال وأريحية، حيث قال " الذين يعرفون فرحة الوصول إلى أعلى السلم، هم الذين بدأوا من أسفله، والذين يبدأون بأعلى السلم، لن يكون أمامهم إلا النزول، وتسقينا الكاتبة الجزائرية، أحلام مستغانمي، حبيبات وعي، لتبوح: الذين يغتابونك، في كل ما يقولونه عنك، هم يتحدثون في الواقع عن أنفسهم. الغيبة تشي بنقائص المتحدث، ومعدنه، إنه لا يغفر لك ما تمناه وحصلت عليه، وفاروق جويدة، يحدثنا: الأيام علمتني أن أجمل ما فيها أمل نغرسه، وفرحة ننتظرها، ولقاء نسافر من أجله آلاف الأميال. إن كنا متفائلون، طيبون الظاهر والباطن، واقعيون في وجهات نظرنا، علاقاتنا، أفكارنا وثقافتنا، أحلامنا وتطلعاتنا، نحب الآخر، نحترمه، نتلذذ بالصمت الجميل والعشق الذاتي الأجمل، سنشعر إحساسًا واقعيًا، بأنه «أهم شي مستانس»، لعانق الأنس في حياتنا.