مرآةُ الحياة
عندي شباكٌ لونُ الزجاجِ فيه أزرق، يعكس الضوء الخافت كل صباحٍ في شهري كانونِ الأول والثاني. يعكس الزجاجُ ما خلفه بكل صفاءٍ ورونق. يأتي عصفورٌ كُلَّ يوم، يقف على حافة الشباك وينظر إلى انعكاس نفسه ويظن أن عصفوراً آخرَ في الجهةِ الأخرى من الزجاج. يطير العصفور في كل الاتجاهات يميناً ويساراً وأعلى وأسفل بحثاً عن التقاء العصفور الذي في خياله والذي لا ينفك يفعل الشيء ذاته، ينقرُ الزجاج ويفردُ جناحيه ويغردُ في ذات الوقت كما يفعل هو!
يظل العصفورُ مجنوناً ويعبث ساعاتٍ في اليوم إن تركته ولم اقترب منه. يقنطُ من الالتقاء ويطير ليعود في اليومِ الذي بعده وبعده مفتوناً بما يرى عن الطيران، شَغَلَهُ حُبُّ الذاتِ عن البحث عن الحَبِّ. اقتربُ منه، أكاد ألمسه، وهو غير عابئٍ بحضوري إلا عندما يداهمه الخطر. يرى العصفور صورتهُ عندما يشرب الماءَ من السواقي الذي يعكس صورته كالمرآة، لكنه عرف حقيقةَ الماء ولم يعرف حقيقة المرآة، الماء لا يكون فيه إلا نبضُ الحياة.
نظل ننظر في مرايا الحياة نبحث عن تجلياتِ أرواحنا نظن أننا وجدناها بينما هي انعكاس الضوء لظل أجسامنا. لم يعرف العصفور النرجسيةَ وحب الذّات ولكنه قد يشبه الإنسان عندما يعشق ذاته ولا يفكر إلا فيها. في الميثولوجيا والأساطير اليونانية كان هناك شخصٌ جميلٌ جداً، وبسبب جماله عشق نفسه عندما رأى انعكاس وجهه الجميل في الماء، فأراد أن يلمس جماله وقفز في البحيرة التي اعتاد أن يجلس عندها مطوّلاً متأملاً جمال وجهه، فغرق ومات، وظهرت مكان جلوسه وردة، وكانت هذه الوردة هي ”النرجس“.
وفي أسطورةٍ أخرى، عشقت فتاةٌ شابّاً جميلاً جداً حتى الجنون، ومن شدّة حبّها له أصابها المرضُ إلى أن ماتت، وغضبت الآلهةُ وأرادت أن تعاقب الفتى فجعلته يعشق نفسه بصورةٍ غريبة عندما رأى انعكاس وجهه في الماء، وظل يقضي الساعاتِ متأمّلاً صورته الجميلة وبعد فترة فقد عقله فقفز إلى الماء ليلمسَ صورته ولكنه غرق ومات، وظهرت في ذلك المكان وردة ”النرجس“.
ماذا لو كانت المرآة جِنيةً وتلاعبت بعواطفنا ونادتنا بأننا الجمال الكلي وكلما نظرنا فيها قالت قف قليلاً أيها الفتى أيتها الصبية لأرى وجهك واتأمله! قال ابن هانئ في مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله العديدَ من القصائد، منها قصيدةٌ مطلعها:
ما شئتَ لا ماشاءت الأقدارُ
فاحكم فأنت الواحدُ القهارُ
فكأنَّما أنت النبي محمدٌ
وكأنَّما أنصاركَ الأنصارُ
أنت الذي كانت تبشرنا به
في كتبها الأحبارُ والأخبارُ
وقال أبو الحسن بن على بن جبلة الخراساني الملقب بالعكوك في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي:
أنت الذي تنزلُ الأيامَ منزلها
وتنقل الدهرَ من حالٍ إلى حالِ
وما مددتَ مدى طرفٍ إلى أحدٍ
إلا قضيتَ بأرزاقٍ وآجالِ
إسمع أيها العصفور، إذهب وحلق في الفضاء في مشارق الدنيا ومغاربها وتنقل بين الحقول قبل أن تطوي المرآةُ الكاذبةُ ساعاتِ الحرية و يصطادك الصائدُ في غفلةٍ وتبقى سجينَ القفص أو تظن نفسك بازي. ليس هناك خلف المرآةِ عصفورٌ سواك.