عائدٌ من القبر
في الليل جاءتني فكرةٌ اني سوف اموت. لا أدري متى ولكني أموت. حقيقةٌ فكرتُ فيها فأصابني الجنون واضطربتْ روحي لأني يوماً ما أفارق الحياة. اترك كل ما أملك وافارق كل من أحب ولا أبقى لإتمام ما بدأت. من يمر على قبري يقرأ هذا قبر المرحوم فيه جسدي المادي الذي لبسته منذ خلقتي واعتنيت به وخفت عليه من الفناء، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾.
كل الأماكنِ التي يزورها الناسُ يعودون ليخبروا عنها لكن لن يكونَ هناك شخصٌ رأى الموتَ وعاد ليخبرنا عن التجربةِ وقسوتها أو متعتها ولن نسمعَ من أحدٍ أقاصيصَ عن الرحلة، كل من يسافر فيها لا يعود. كُلُّ حي لم يجرب الموتَ الكلي ولكن الكثير من الأحياءِ جربوا الموتَ الجزءي في عمليةِ قطع عصبٍ بسيط بما يرافقه من ألمٍ لا يطاق. الموت الكلي هو موتُ الملايينِ من الأعصاب مع كل الألم فكم هو قاسٍ ياترى!
رحلةٌ مهولةٌ لا نعرف مداها وحدودها ولكن كما يجب الاستعداد والتهيؤ للرحيل في السفر المعلوم فمن الأولى أن نتهيأ للسفر المجهول ونأخذ من المتاع ما هو ضروريٌ ونخففَ مما لا يلزم في السفر. كان الإمام علي ينادي في كل ليلةٍ حين يأخذ الناس مضاجعهم للمنام بصوتٍ يسمعه كافةُ أهل المسجد ومن جاوره من الناس -: تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ وَ أَقِلُّوا اَلْعُرْجَةَ عَلَى اَلدُّنْيَا وَ اِنْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ اَلزَّادِ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً وَ مَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً لاَ بُدَّ مِنَ اَلْوُرُودِ عَلَيْهَا وَ اَلْوُقُوفِ عِنْدَهَا. وَ اِعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ اَلْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَانِيَةٌ وَ كَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَ قَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ وَ قَدْ دَهَمَتْكُمْ فِيهَا مُفْظِعَاتُ اَلْأُمُورِ وَ مُعْضِلاَتُ الْمَحْذُورِ. فَقَطِّعُوا عَلَائِقَ الدُّنْيَا وَ اسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى.
لكن لأنني إنسانٌ من الطينِ سريعاً ما زالت عني فكرة الموت كالهبوبِ إن كانت شمالاً ساعةً بعدها تهب الجنوبُ وعدت من القبر إلى خطاياي. يقول الإمام علي : ”ما رأيت إيماناً مع يقين أشبه منه بشك على هذا الإنسان، إنه كل يوم يودع إلى القبور، ويشيع، وإلى غرور الدنيا يرجع، وعن الشهوة والذنوب لا يقلع، فلو لم يكن لابن آدم المسكين ذنبٌ يتوكفهُ ولا حسابٌ يقف عليه إلا موتٌ يبددُ شمله ويفرقُ جمعه ويوتمُ ولده، لكان ينبغي له أن يحاذر ما هو فيه بأشد النصب والتعب“.
كلنا في مكنوناتِ عقولنا ندرك أننا نموت يوماً ما ولكن لا نقف مكتوفي الموت بانتظاره ونهرب منه طلباً للحياة. فقط هم الأنبياء والصالحون يسيرونَ إلى الموت بكل راحة وطمأنينة. صفحاتٌ قليلةٌ هي كتابُ الإنسان تقلبه الليالي والأيام في الحياة الدنيا يجمعُ فيها كل التجاربِ والمعارفِ لكن بعض الأسرار تخفى عليه وتبقى مخيفةً لا يستطيع إدراكها بحواسه الفيزيائية المحدودة ويقر قبالها بأنه جهلٌ محض.
إلهي أَعبثاً نموتُ وتبقى النجومْ!
يحارُ عقلي وقلبيَ حتى الوجومْ
إلهي نموتُ ويبقى الفراغُ السقيمْ؟
يضيع جوابي وتملأُ رُوحي الهمومْ
إلهيْ كلما تفكرتُ في صُغرِ نفسي
تعاظمتَ مَنْ بعدِ كُلِّ شيءٍ تدومْ