حكايةُ أجيال
حينما كنت استقل حافلة النقل الصفراء ذاتَ المقعد المصنوع من البلاستيك والسيئة التبريد، المخصصة لموظفي شركة أرامكو للذهاب إلى رأس تنورة آنذاك، عامي 1984 - 1985م، كان يستقل الحافلة معي مجموعةٌ من قدامى الموظفين الذين تقاعدوا عن العمل خلال العام الأول منذ انضمامي. كنت أراهم بعد ذلك يخرجون من بيوتهم كل يومٍ يجلسون في مقاعد انتظار الحافلة ويتجاذبون أطراف الحديث مع من يكون هناك. لا يزالون على ذاك الحال حتى تأتي الحافلة ويصعد اليها من ينتظرها ويبقى الثلةُ المتقاعدون يطيلون النظر للحافلة حتى تختفي عنهم ومن ثم يعودون لمنازلهم بانتظار يومٍ آخر. تُرى لِمْ كانوا يفعلون ذلك، ولِمَ لمْ يكونوا فرحين بحالتهم الجديدة وينسوا حالتهم القديمة؟
بالطبع، قضى بعض هؤلاء عمرهم في الوظيفة منذ سنين الصبا وبعضهم خدم أربعينَ سنةً أو أكثر، فلكلِّ واحدٍ منهم قصةٌ يرويها، ولم يكن طلب الرزق ما يثقل كاهلهم بعد التقاعد، إذاً لماذا لمْ يختفوا من مسرح الحياة العملية وينسحبوا بطريقة أخرى؟ غير ما يبدو أنه إضاعة الوقت في انتظار حافلةِ تأتي وتذهب، والجلوس مع من كانوا يجلسون معهم، حيث لا جديد، سوى اجترار الماضي والحاضر الذي لا ينفع!
أن سنوات العمل بالنسبة لهم لم تكن كلها صحواً، بل تخللها فتراتٌ طويلةٌ من الغيوم وعدم الراحة والرضا وكانت طبيعة العمل شاقةً وكذلك المواصلات. لم يهتم كثير منهم بالتقاعد المبكر وكان الجانب الإنساني بالنسبة لهم كان الجانب الأقوى، فلم تلبث ان تتكشف تلك الغيوم وتعود السماءُ صافيةً كما كانت. لا بد وخلال تلك المدة أصبح لديهم حبٌ موازٍ لحب عائلتهم ومجتمعهم، فأصبح من الصعب عليهم أن يتخلوا عن ذلك الحب. فالحب ليس سوى ميْلٌ إِلى الأشخاص أو الأشُياء العزيزة، أو الجذَّابة، أَو النافعة أو الجمع بينها.
لم يملك ذلك الجيل من العمال وسائل نقلٍ في بدايات عملهم ليعودوا إلى منازلهم كل يوم، بل كانوا يقضون فتراتٍ طويلة في مقر عملهم قبل أن يعودوا لرؤية أهاليهم. ولم يستطيعوا الخروج في أوقات الدوام لقضاء لوازمهم أو الترفيه عن أنفسهم، بل حتى انصرافهم لفترة الغداء ونهاية الدوام كان متى ما يدق جرس الشركة ”السي تي“. مع ذلك لم يترك أحد منهم العمل لغرض الراحة قبل بلوغه السن القانونية وصرفِهِ من العمل بالإكراه.
لم تدم علاقتي بهم طويلاً ولكن أظن أنني اكتسبت منه بعض ذلك الحب، فمثلاً عندما كنت في فترة عمل صيفية لفترةِ الإجازة المدرسية عام 1978م، غلبني النوم وتأخرت عن موعد الحافلة ولم أكن أملك وسيلة نقل واستأجرت سيارةً من تاروت ومن ثم إلى القطيف فالدمام وأخيراً من الدمام إلى الظهران. أجرةُ السيارات مجتمعةً زادت عن اجرة ما اكسبه في اليوم من عمل الصيف، ولكن لم أكن لأتأخر عن الحضور لأي سبب من الأسباب.
مات متعهدُ الحافلة الصفراء وسائِقُها في تاروت منذ مدةٍ وبقي شريكه مقعداَ واختفت الصفراءُ وجاء بعدها اللون الرمادي ثم الأخضر والأبيض، الأكثر راحة وأماناً. لم يعد من يستقل الحافلة فقط من أصحاب اللحى والشوارب بل أصبحوا خليطٌاً من الرجال والصبايا الذين انضموا إلى شركة أرامكو مؤخراً، فهل يا ترى سيخرج هذا الجيل من الشباب والشابات بعد تقاعدهم كل صباحٍ لانتظار الحافلة والتحدث مع الصغار؟ أم إلى هنا تنتهي الحكاية!