آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 11:37 م

هل حقًا الحوزة العلمية تحتضر؟

الدكتور عادل حسن الحسين

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى.

تلقيت عبر مسنجر الفيسبوك منشورًا بعنوان «قراءات» من سماحة السيد محمد رضا الأحمد السلمان حفظه الله، إمام مسجد الإمام الحسين بالمبرز في الأحساء، مؤرخًا في 15/4/1439 هـ ، وقد جاء في المنشور ما يلي: ”بالأمس القريب كانت الحوزات والجوامع هي مصدر المعارف بين أبناء الأمة أما اليوم فقد تبدل المشهد كثيرًا فالجامع لا يشغل من ذاك الدور ما يستوجب التوقف عنده والشواهد كثيرة فأين جامع البصرة والكوفة والأموي والأزهر والزيتونة وسواها، أما الحوزات عندنا فهي كالمحتضر يعالج سكرات الموت معولا على تدخل السماء حيث أن الله جلت قدرته ﴿يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [1] “ [2] .

فهل حقًا أن الحوزات العلمية دخلت في مرحلة الاحتضار كما يراها السيد السلمان؟ وهل أن هذه القراءة مبنية على أسس علمية واستقراء ميداني لما عليه الحوزات العلمية؟ أم أنها فقط أحكام جزافية؟ أشبه ما تكون بالأمنيات، كقول أحدهم: يا ليتها تتهاوى على عروشها، لكي يثبت صحة كلامه. أو ربما كان قصد السيد السلمان هو التحذير من نهاية الحوزات العلمية إن لم تصحح من أوضاعها؟

قبل عدة سنوات، ظهرت أصوات تصنف الحوزات العلمية إلى حوزات ناطقة وحوزات صامتة، وإلى حوزات فاعلة وأخرى خاملة أو نائمة. وحينئذ، كان الهدف واضحًا، وهو تهميش دور بعض الحوزات العلمية في العالم الإسلامي على حساب حوزات أخرى، يرى أصحاب هذا التصنيف صوابية ما يذهبون إليه. وكُتبت في ذلك المقالات وأُقيمت الندوات لتسليط الضوء على هذا الاكتشاف الخطير الذي سوف يقضي على الحوزات العلمية إن لم تتحرك الحوزات النائمة أو الصامتة وتنهض بمهامها المنوطة إليها.

لتسليط الضوء على هذا الاكتشاف الخطير الذي سوف يقضي على الحوزات العلمية إن لم تتحرك الحوزات النائمة أو الصامتة وتنهض بمهامها المنوطة إليها.

وفي وقتنا الراهن ترتفع الأصوات - أصوات بعض الأساتذة في الحوزة العلمية وبعض أئمة المساجد وبعض الخطباء وبعض المثقفين - لتقول: إن الحوزات العلمية تحتضر وأنها إلى زوال، ولا فرق عند هذه الأصوات بين الحوزات الناطقة والحوزات الصامتة كما يعبر عنها أصحاب هذا التصنيف، فكلها في بوتقة واحدة غارقة في التخلف والرجعية، ولا تمت إلى الحياة العصرية بأدنى صورها ومقوماتها. ولكي تتحقق هذه الرؤية أو هذه الأمنية لدى هذه الشريحة من المجتمع الإسلامي بدؤوا يشككون في مشروعية دفع خمس أرباح المكاسب إلى الحاكم الشرعي في عصرنا الحالي. وهذه الحملة الشرسة ضد الخمس ما هي إلا بهدف تنشيف المصدر المالي الأساسي الذي تقوم عليه الحوزات العلمية في جميع البلدان الإسلامية.

والسؤال الذي يطرحه عقل الإنسان الواعي في هذا المجال، ما هو المشروع الذي قدمه أصحاب هذه الأصوات بديلا عن الحوزات العلمية؟ بمعنى آخر، ما هو المشروع الذي سوف ينقذ الأمة من الضياع والتشتت كما يعتقدون؟ أم أنهم ينتظرون الفيض من السماء لينقذها من التيه.

عوامل انقضاء أو اختفاء دور العلم في العالم:

أورد السيد السلمان عدة أمثلة على اختفاء التعليم في عدة جوامع إسلامية عبر التأريخ، وهي: ”جامع البصرة والكوفة والأموي والأزهر والزيتونة وسواها“. ومن الواضح أنه يريد أن يقول إن مصير الحوزات العلمية ليس بعيدًا عن مصير هذه الجوامع. وفي ظني، هذه النتيجة التي يستند إليها السيد السلمان غير دقيقة، وفي الأمثلة التي أوردها خلط بين الصواب والخطأ.

في الحقيقة هناك عدة عوامل تؤدي إلى انقضاء أو اختفاء دور العلم في العالم أجمع، وليس حصرا في البلاد الإسلامية. وهذه العوامل على سبيل المثال، قد تكون عوامل سياسية، أو عوامل اقتصادية، أو عوامل إدارية، أو عوامل اجتماعية.

العوامل السياسية:

في عهد الرسول الأكرم ﷺ، وعهد الخلافاء الراشدين الثلاثة، كانت العاصمة السياسية والدينية والعلمية هي المدينة المنورة. وعندما تسلم الإمام علي زمام الخلافة، أصبحت الكوفة هي العاصمة السياسية والدينية والعلمية. ولما آلت أمور الخلافة إلى معاوية ابن أبي سفيان، بدوره قام بنقلها إلى الشام. وهكذا أيضا، في العهد العباسي، أصبحت بغداد هي العاصمة السياسية والدينية والعلمية. وقد تنقلت عاصمة العباسيين العلمية ما بين بغداد وسامراء وخراسان.

فالقرار السياسي له دور رئيس في انتقال التعليم والعلماء والحواضر العلمية من بقعة جغرافية إلى أخرى. بمعنى آخر، ليس للعلماء ولا المتعلمين دور في اختفاء التعليم من هذا الجامع وظهوره في جامع آخر، أو من مدينة إلى مدينة أخرى.

أما بالنسبة لجامع الزيتونة وجامع الأزهر وجامع القرويين فالوضع مختلف تماما. فجامع الزيتونة، تم الانتهاء من بنائه في عام 704م، وانتظم التعليم الزيتوني في عام 120 هـ /737م، واستمر إلى بداية الستينيات من القرن المنصرم، وتوقف فقط لمدة خمس وعشرين سنة تقريبا بسبب الاستعمار الفرنسي. وعاد التعليم الزيتوني بعد الاستقلال عام 1987م بتأسيس جامعة الزيتونة رسميا بالقرار رقم 83 في 31 ديسمبر 1987م. [3] 

وجامع أو ”جامعة الأزهر هي المؤسسة الدينية العلمية الإسلامية العالمية الأكبر في العالم وثالث أقدم جامعة في العالم بعد جامعتي الزيتونة والقرويين، وهي توجد في القاهرة في مصر. يسجل التاريخ أن «الأزهر» أنشئ في أول عهد الدولة الفاطمية بمصر جامعًا باسم «جامع القاهرة، الذي سمى الأزهر فيما بعد» حيث أرسى حجر أساسه في الرابع والعشرين من جمادى الأولى 359 هـ /970م، وصلى فيه الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ثاني خلفاء الدولة الفاطمية صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان سنة 361 هـ /972م، إيذانا باعتماده الجامع الرسمي للدولة الجديدة، ومقرا لنشر الدين والعلم في حلقات الدروس التي انتظمت فيه، وبدأها القاضي أبو حنيفة بن محمد القيرواني قاضي الخليفة المعز لدين الله، وتولى التدريس أبناء هذا القاضى من بعده وغيرهم، إلى جانب دراسة علوم أخرى في الدين واللغة والقراءات والمنطق والفلك“. وبصدور القانون رقم 103 لسنة 1961م تحول النظام التعليمى القديم لجامع الأزهر إلى النظم التعليمية الحديثة. وتوسع الأزهر في نوعيات وتخصصات التعليم والبحث العلمي للبنين والبنات على حد سواء. وقد أضيفت كليات جديدة إلى الكليات الشرعية والعربية، مثل: كليات للطب وطب الأسنان والصيدلة والعلوم والتربية والهندسة، والإدارة والمعاملات، واللغات والترجمة. ويتلقى طلابها قدرًا لا بأس به في العلوم الدينية، لتحقيق المعادلة الدراسية بينهم وبين نظرائهم في الكليات الأخرى. [4] 

وجامعة القرويين بمدينة فاس بالمغرب، بُنيت الجامعة كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين الذي قامت ببنائه السيدة فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني عام 245 هـ /859م، وما زالت قائمة إلى الآن من دون انقطاع حسب اليونسكو وموسوعة غينيس للأرقام القياسية والعديد من المؤرخين. [5] 

وما حدث في العراق - في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم - من تضييق على الحوزة العلمية في النجف الأشرف من قبل حزب البعث، أضعف حوزة النجف لذلك توجه كثير من طلبة العلوم الدينية إلى قم المقدسة. والسبب نفسه، جعل كثيرًا من الحوزات العلمية المحلية تنشط، كما هو الحال في الأحساء والقطيف والبحرين ولبنان، وغيرها من البلدان الإسلامية.

وفي عصرنا الحديث وبالتحديد بعد الأحداث الإرهابية التي اجتاحت نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر عام 2000م، قررت الإدارة الأمريكية عدم قبول الطلاب الأجانب الراغبين في الدراسة في أمريكا، وبالذات الطلاب القادمين من دول الشرق الأوسط. بعد هذا القرار، وجدنا كثيرا من معاهد اللغة الإنجليزية أُغلقت لأنها قائمة على الطلاب الأجانب. وكثيرٌ من الأقسام الأكاديمية في الجامعات التي يُقبِل عليها الطلاب الأجانب قد أغلقت أيضا. واستمر هذا الحال تقريبا عشر سنوات، إلى أن تغير القرار السياسي.

العوامل الاقتصادية:

الحواضر العلمية بشكل عام تتأثر بالوضع الاقتصادي ازدهارًا وانكماشًا. على سبيل المثال، التعليم في أمريكا يعتمد على الضريبة والتبرعات. فإذا كان الوضع الاقتصادي في أمريكا سيئا، هذا يعني أن الضرائب التي تجبى والتبرعات التي تقدم من قبل الأثرياء سوف تكون أقل مما كانت عليه في أوقات الرخاء أي في ظل الاقتصاد الجيد. والتعليم بشكل عام يعد من أبرز مراكز التكلفة على الدول التي تقدم التعليم مجانا. ولذلك تجد الأشخاص الذين يُلحقون أبناءهم بمدارس أهلية يدفعون رسوما عالية جدا. وقد تستنزف أكثر من نصف رواتبهم. لهذا ينكمش الصرف على التعليم في أوقات الكساد الاقتصادي.

من هذا المنطلق، من يطالب بعدم دفع خمس أرباح المكاسب يعي تماما أن عدم تحصيل الخمس سوف يؤثر سلبا على أوضاع الحوزات العلمية في العالم الإسلامي لأن الخمس بالنسبة لها هو المصدر المالي الأساسي لبقائها واستمرار عطائها.

العوامل الإدارية:

للقرارات الإدارية التي تصدرها الدولة فيما يخص التعليم دور كبير في تغير أنماط التعليم والاستراتيجيات التعليمية. على سبيل المثال، قبل اكتشاف الثروة النفطية في دول الخليج، كان نمط التعليم السائد هو الكتاتيب سواء كان في المساجد أو في بعض البيوتات. حيث، ”تعد الكتاتيب من أقدم المؤسسات التعليمية في منطقه الأحساء حيث يرجع تاريخها إلى العصور الإسلامية الأولى عندما كان المسجد يقوم بجميع المهام الدينية والعلمية في المجتمع حيث يستقي الطلاب علومهم من الحلاقات العلمية والدراسية التي يديرها العلماء ومعلمي الكتاب في بيوتهم، وهذا ليس حصرًا على منطقة الأحساء وحدها وإنما في جميع الحواضر العلمية“ [6] . فعندما قررت الدول الخليجية استبدال الكتاتيب بالمدارس النظامية والمعاهد والكليات والجامعات. اختفت الكتاتيب شيئا فشيئا كاستراتيجية تعليمية كان لها دور كبير في الماضي.

العوامل الاجتماعية:

في بعض الظروف الحياتية تقوم الأسرة أو يقوم المجتمع بتحمل مسؤوليات التعليم. من خلال تجربة شخصية عندما كنت مبتعثا للدراسة في أمريكا في التسعينيات من القرن العشرين وفي السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين. لم يكن لدينا مدرسة عربية في مدينتنا فاظطررت أن أقوم مع زوجتي بدور الكتاتيب في البيت لتعليم الأبناء اللغة العربية، قراءة وكتابة. وهذا ما يقوم به كثير من الجاليات الإسلامية وغير الإسلامية للحفاظ على هوية أبنائهم التي ينتمون إليها في بلدانهم الأصلية. وقد انخرطت في مثل هذه الفعاليات عندما كنت أدرس في جامعة «Missouri State University»، في مدينة سبرينقفيلد، ميزوري، فكنت أُدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها، بنظام الكتاتيب، وإن كان في قاعة بالجامعة.

وعندما كنت أدرس في جامعة «University of North Texas»، درّست القرآن واللغة العربية للجالية الإسلامية في أيام الأحد في المركز الإسلامي في دالاس، تكساس، وأيضا على نمط الكتاتيب. وعندما تكثر العائلات في مدينة ما في أمريكا، كانت الجاليات الإسلامية يأسسون مدرسة نظامية لها مناهج تعليمية متكاملة. وكانت المرجعيات الدينية التي يرجعون إليها تدعمهم في إنشاء المدارس وتشغيلها. وعلى هذا المنوال نفسه، كانت المرجعيات الشيعية تعطي المراكز الإسلامية الشيعية حق التصرف في جزء من الحقوق الشرعية لدعم التعليم في المدارس التابعة لها.

وفي المقابل، عندما يتقاعس بعض الأفراد أو المجتمعات عن القيام بمسؤولياتهم تجاه تعليم أبنائهم، قطعا سوف يؤثر ذلك سلبا على مستقبل أبنائهم الديني والثقافي. وقد رأينا أمثلة كثيرة من هذا النوع من السلوك غير المسؤول.

أثر العوامل أعلاه على الحوزة العلمية:

بعد أن استعرضنا العوامل المؤثرة في مسيرة التعليم، هل لنا أن نقول في عصرنا الراهن: إن الحوزة العلمية مهددة بهذه العوامل، أو بأحدها على أقل تقدير؟

من الناحية السياسية، نجد أن أكبر حوزتين في العالم وهما حوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة ينعمان بنظامين سياسيين متناغمين معهما. والحوزات العلمية الأخرى في أكثر من بلد إسلامي وغير إسلامي يعملون بشكل مستقل عن الأنظمة السياسية لتلك البلاد. فلا يعتبر العامل السياسي مهددا للحوزة العلمية.

وفي الجانب الاقتصادي، ما زالت الحوزة العلمية تعتمد على خمس أرباح المكاسب كمصدر أساسي، وعلى بعض التبرعات من قبل بعض الشخصيات ممن يحملون مسؤولية الحفاظ على هذا الكيان التعليمي العريق.

ومن الناحية الإدارية، ما زالت الحوزة العلمية مستقلة في إدارتها وقراراتها، وتحت إشراف المراجع العظام في العالم الإسلامي.

ومن الناحية الاجتماعية، نجد أن معظم الحوزات العلمية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمجتمع التي تعمل في محيطه. كما أنها في تطور مستمر لتواكب التطور الاجتماعي والثقافي. والقائمون عليها، على وعي تام بأهمية تطويرها منهجيا لتواكب الثورة المعلوماتية. والمجتمع أيضا مسؤول مسؤولية شرعية أمام الله في الحفاظ على الحوزة العلمية واستمرارية عطائها العلمي والفكري.

انتقاد الحوزة العلمية:

لا شك ولا ريب، في سبيل تطوير الحوزة العلمية وتحسين أدائها ينبغي أن تُقوم وتُنتقد من قبل المختصين في مجال التعليم ومناهجه وأساليبه، ولكن ينبغي أن يكون الانتقاد بناءً ليُرتقى بها وبمخرجاتها. أما إذا كان الانتقاد لمجرد الانتقاد يتحول الانتقاد إلى معول هدام. وفي رأيي، قراءة السيد السلمان لاحتضار الحوزة العلمية، من هذا القبيل، أي أنه انتقاد هدام وليس انتقادًا بناءً. حيث أنه لم يعرض مشروعا لتطوير الحوزة العلمية أو لتطوير مناهجها وأساليب التدريس فيها.

ومن الشواهد البناءة في انتقاد الحوزة العلمية ما قام به كل من الشيخ محمد رضا المظفر قدس سره، والشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه، والسيد الإمام روح الله الخميني قدس الله نفسه الزكية، والشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي أعلى الله مقامه. جميعهم تركوا بصمات إيجابية خالدة ومؤثرة في تطوير الحوزة العلمية إلى الأفضل، حيث كان لكل واحد منهم مشروع واضح ومدروس، وتعضده نية صادقة للارتقاء بالحوزة العلمية وطلابها.

وقد استجابت الحوزة العلمية متمثلة في زعيمها آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي رضوان الله تعالى عليه في تبني كثير مما قاموا به هؤلاء الأعلام المجددون. واعتمد السيد الخوئي كثير من طلبة العلوم الدينية الذين تخرجوا من كلية الفقه كوكلاء شرعيين للمرجعية العليا في كثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية. ولا ينسى أيضا الدور الكبير الذي قام به السيد الخوئي في تطوير وازدهار الحوزة العلمية في عصره.

فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي نقلة نوعية في الفكر الإسلامي الشيعي «مذهب أهل البيت » على جميع الأصعدة وبالذات الجوانب الاجتماعية والفقهية والاقتصادية والسياسية. وقد بدأ هذا العهد الجديد بالمجدد آية الله الشيخ محمد رضا المظفر أعلى الله مقامه من خلال تطوير مناهج الدراسة الحوزوية وتأسيس منتدى النشر في النجف الأشرف كأول لبنة للتعليم الحوزوي النظامي، وتوَّجه أيضا بتأسيس كلية الفقه في النجف الأشرف. إذ لم يكتفِ الشيخ المظفر بالانتقاد دون العمل في سبيل التطوير والرقي بالحوزة العلمية.

وتواصل التجديد في الفكر الشيعي من خلال الإمام المجدد الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه من خلال نقد الفكر الرأسمالي والفكر الشيوعي الاشتراكي وإبراز الفكر الإسلامي كنظام حياة: دينيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. فأصبحت كتبه في هذه المجالات مرجعًا أساسيًا لكل الباحثين الإسلاميين وغير الإسلاميين الذين أتوا من بعده وبحثوا في تلك الموضوعات. كما أن له تجديدًا نوعيًا في علم أصول الفقه وعلم الفقه وتجد ذلك جليًا في كتابه ”دروس في علم الأصول“ وفي رسالته العملية ”المسائل الواضحة“. والشهيد الصدر يعتبر من العلماء الأوائل الذين تبنوا مفهوم ”ولاية الفقيه“ في الفكر السياسي لقيادة الأمة وتجد ذلك فيما كتبه في كل من: ”الأسس الإسلامية“ و”الإسلام يقود الحياة“.

وبعدهما أتى من توج هذا التجديد بتأسيس دولة إسلامية قائمة على أساس ”ولاية الفقيه“ بقيادة الإمام المجدد المجاهد آية الله العظمى السيد روح الله الخميني رضوان الله تعالى عليه. والتي ما زالت قائمة إلى يومنا هذا تستمد قوتها وبقاءها من توجيهاته وتعليماته.

أما أستاذنا العلامة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي قدس الله نفسه الزكية فقد تبنى ذلك التجديد ونذر نفسه لإتمام مسيرة أستاذيه الشيخ المظفر والشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليهما. حيث ختم الألفية الميلادية الثانية كأحد رواد التجديد في الفكر الإسلامي الشيعي، وواصل مسيرة التجديد في الألفية الثالثة ليكون المجدد الأول للفكر الإسلامي الشيعي في عصرنا الراهن، تاركًا تراثًا ضخمًا ومميزًا تستنير به الأجيال القادمة. وبرحيله صارت المسؤولية جسيمة وكبيرة على من سيأتي بعده ليكمل تلك المسيرة الرائدة في التجديد.

فعلى صعيد المناهج التعليمية له باع كبير في تطوير وتجديد المناهج الحوزوية والأكاديمية. فقد تفوق على أستاذيه الشيخ المظفر والشهيد الصدر وعلى كثيرين ممن ولجوا مضمار تطوير المناهج التعليمية. حيث بذر أستاذاه السيد الصدر والشيخ المظفر البذرة، وتعهدها أستاذنا الفضلي بالرعاية، فكان نعم الراعي لتلك البذرة إلى أن أصبحت شجرة مثمرة. فقد جدد وطور في جميع المناهج ذات الصلة بالعلوم الدينية وعلوم اللغة العربية، بحيث عرض منهجًا متكاملاً للدرس الحوزوي من بداية مرحلة المقدمات إلى مرحلة البحث الخارج.

وفي مجال تطوير المؤسسات التعليمية سواء الحوزات العلمية أو الجامعات الأكاديمية له بصمات بارزة في تطوير تلك المؤسسات التعليمية. فعلى سبيل المثال، سمعت الشيخ الفضلي ذات مرة يقول: أن آية الله الشيخ حسين منتظري رضوان الله تعالى عليه عندما كان مشرفًا عامًا على الحوزات العلمية في إيران في حياة آية الله العظمى الإمام الخميني رضون الله تعالى عليه، طلب منه وضع منهجٍ حوزوي جديد يتواكب مع النظام الجامعي الأكاديمي. فاستجاب أستاذنا العلامة الفضلي لهذا الطلب، حيث وضع نظامًا ومنهجًا جديدين للحوزة العلمية في قم المقدسة.

وقد جُلب ذلك النظام إلى كثير من الحوزات العلمية في العالم الإسلامي بما فيها الحوزة العلمية في محافظة الأحساء في المملكة العربية السعودية حيث تبنت إدارة الحوزة العلمية ذلك النظام في إعادة هيكلة الحوزة منهجًا وتدريسًا.

وله رضوان الله تعالى عليه لمسات بارزة في تأسيس بعض الجامعات الإسلامية في بعض الدول الإسلامية وغير الإسلامية والمشاركة في بلورة نظام الجامعة ومناهجها التعليمية. ومن أبرز الجامعات التي ساهم في إنشائها هي ”الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية“ في لندن وقد أصبح مشرفًا عامًا لها، وقام بتدريس عدة مواد في عدة تخصصات، وله كتب كثيرة تدرس في الجامعة وما زالت إلى يومنا هذا. كما ساهم في إنشاء جامعة آل البيت العالمية في قم المقدسة، وهو المشرف العام للجامعة إلى حين رحيله إلى الرفيق الأعلى.

وهناك أيضا أسماء لامعة لها دور كبير في تجديد الفكر الإسلامي الشيعي كالشهيد آية الله الشيخ مرتضى مطهري والشيخ الدكتور أحمد الوائلي. فللشهيد مطهري دور كبير في إبراز ثورة الإمام الحسين كثورة عالمية وليست مقتصرة على الشيعة فحسب.

وللشيخ الوائلي الدور الأبرز في تجديد المنبر الحسيني ليصبح حاملا بجدارة لقب ”أمير المنبر الحسيني“ فقد كان خطيبا بارعا ومتمكنا وجامعا وموحدا. وقد قيل عنه بأنه لسان الشيعة وجامعة العلم المتنقلة وخطيب المجتهدين. [7] 

والفرق واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، بين من ينتقد من أجل الانتقاد فقط، وبين من ينتقد من أجل البناء والتطوير والتجديد. فمن ينتقد من أجل البناء والتطوير والتجديد يترك خلفه إنجازات ضخمة. ومن ينتقد من باب ”خالف تعرف“، تسمع منهم جعجعة ولا ترى طحينا.

همسة الختام:

سيدنا العزيز أبا سيد عدنان، همسة في أذنك: الحوزة العلمية ليست كما تظن في قراءتك أنها تحتضر. حيث لا يوجد ولا مؤشر واحد على احتضارها. بل أعتقد أن الحوزة العلمية في جميع البلدان الإسلامية ما زالت في تطور مستمر، وما زالت تسير في الطريق الصحيح، ومسددة من قبل الإمام المعصوم صاحب العصر والزمان روحي له الفداء وعجل الله فرجه الشريف. ولقد رأينا طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف وقم المقدسة مثل أسراب النحل في توجههم إلى حوزاتهم وجامعاتهم ومدارسهم، وهم بالآلاف.

أتمنى من سماحتكم أن تقوم بزيارة خاطفة لحوزة الأحساء لتتعرف على الجهود المبذولة في تطوير الحوزة العلمية ومناهجها وأساليب تدريسها. وترى نشاطها في البحث العلمي الذي يقوم به طلبة العلوم الدينية فيها، وفقا لأسس البحث العلمي الأكاديمي الحديث.

[1]  سورة يس: الآية 78.

[2]  المنشور كما وصلني بعد تعديل الأخطاء المطبعية.

- جامعة الزيتونة «10 ديسمبر 2017». ويكيبيديا. الاطلاع 9 يناير 2018 على 16:18. النسخة [3] https: //ar. wikipedia. org/w/index. php?title=%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%A9&oldid=26022700.

[4]  جامعة الأزهر «3 يناير 2018». ويكيبيديا. الاطلاع 9 يناير 2018 على 17:28. النسخة https: //ar. wikipedia. org/w/index. php?title=%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%87%D8%B1&oldid=26457621

[5]  جامعة القرويين «28 أكتوبر 2017». ويكيبيديا. الاطلاع 9 يناير 2018 على 16:57. النسخة https: //ar. wikipedia. org/w/index. php?title=%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%88%D9%8A%D9%8A%D9%86&oldid=25290743.

[6]  الحرز، الشيخ محمد. الكتاتيب في الأحساء في القرن الرابع عشر الهجري. مجلة الواحة، العدد الستون، السنة السادسة عشرة، شتاء 2010م. http: //www. alwahamag. com/?act=artc&id=873#b8. تم الاطلاع عليه في 9/1/2018م.

[7]  الحسين، عادل بن حسن. العلامة الفضلي ومنهجه الرسالي. أطياف للنشر التوزيع، ط2,2017م.