بلونيّ الأسود والأبيض
شهر أكتوبر 1973م، لا يهم إن لم يكن معك قرشين لِتشتريَ بهما كأساً من الشاي ولا يهم إن كان التلفازُ يبث فقط باللون الأبيض والأسود. أنت لا تملك تلفازاً في بيتك أصلاً! إنها مقهى عبد الحسن، بالقرب من حمام تاروت، والحدثُ هو حرب سوريا ومصر ضد إسرائيل. يكفي أنك تعديتَ العاشرةَ من عمرك لترى أنه انتصارٌ بألوانٍ زاهية حتى لو لم يكن التلفاز ينقل الحرب بالألوان كما الآن. تسمعُ قعقعة الصحونِ التي يُسكب فيها الشاي وأصواتَ الكبار وهي تجلس على الكراسي وتلعب الدومينو، حيث لا مكان للصغار الذين لا يملكون مالاً سوى في الطريق ومشاهدة التلفاز من بعيد. ولا يهم أيضاً إن لم تكن الصورة تأتي واضحةً وتحتاج إلى من يضبطها بين الفينة والأخرى فالعينُ البريئة تقوى على رؤية الأشياء بوضوح وتعرف العدو من الصديق. يكفي أن تسمع صوتَ المذيع المصري يعدُّ لك الأسرى من جيش العدو وينبئك بعدد الكيلومترات التي توغل الجيش المصري والسوري في عمق جبهة القتال وينكسر قلبك مع أي انكسار وتقوى عزيمتك مع كل انتصار، حتى وبالرغم من صغر سنك تحسب أنك كبرت وتتمنى أن تشارك في الحرب. قد لا تفهم ما هو ”خط بارليف“ فيخيل لك أن الأستاذ سوف يطالبك بخطه على لوحة الصف في اليوم التالي كأحد الخطوط العربية، إلى أن يشرح لك المعلق العسكري ما هو، تتنفسَ الصعداء وترتاح وتفرح لأن الجيش المصري اخترق دفاعات العدو. انتظرنا أن تنتهي الحرب لصالحنا وقتها ولكن مر الزمن بطيئاً حتى أتى عام 1974م ولم تجرِ الرياحُ بما تشتهي سفُنُنا.
كنا نسينا حرب أكتوبر حين عُرض مسلسل ”فارس ونجود“ عام 1974م وكان من عدةِ حلقات ومن بطولة الممثلة والمغنية سميرة توفيق والراحل الممثل محمود سعيد، وكان صوتُ محمود سعيد الجهوري ولهجته البدوية هو الأفضل. كنا نذهب كل مساء عند الثامنة تقريباً ونقف على الدرج الخلفي من الشمال، حيث يمكننا رؤية التلفاز بوضوح، ويملؤنا الشوقُ كل ليلةٍ لنرى ماذا فعل ”الفارس ولد متعب“ ومغامراته في وادي المنايا ليحقق مطالب ”الشيخ طراد“ في المهر وهو جلب نبتة ”زهر العيون“، لعلاج عين أم نجود، حسب وصفة الطبيب حسين، قبل أن يفوز بقلب ابنته الساحرة ”نجود بنت طراد“ دون الباقين والتي دعت العجوز على فارس بأن يعشقها. ومشكلة هذه النبتة أنها موجودة في وادٍ لا يستطيع أحد الوصول إليه ويخرج منه حياً.
انتهت القصةٌ كالعادة بظفر فارس بنجود بعد كل المصاعب وحلَّ عام 1975م وأتت حربُ لبنان الأهلية وكبرنا على المقهى ولم نعد نحتفى به ولا بالتلفاز الأبيض والأسود، حتى مسلسل وضحة وبن عجلان لم يعد ينفع. ترك بعدها صاحب المقهى مكانه لشيءٍ آخر على ما أظن! وللأسف لم يبق التلفاز ينقل حربَ لبنان باللون الأسود والأبيض فقط وتشوهت الصورة وتعددت الألوان وصار لكلٍّ منا لونه. منا من اختار الأحمرَ أو الأخضر ومنا من بقي على الأبيضِ والأسود. ومنذ حرب لبنان، لم يعد العدو عدواً ولم يعد الصديق صديقاً. يبدو أن لكل عمرٍ متلازمة ومتلازمتنا في نهاية الخمسينات من العمر هي ”عمى الألوان“.
عود يا زمان عود وإن بالأسود والأبيض لا غير...