آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الرجم

في النومِ يحلم الإنسانُ بما هو لا واقعي وما هو واقعي وما هو غيرُ ممكنٍ وما هو ممكن ولا يستطيع أحدٌ أن يحاسبه على هذا الخيال ما لم يُطلع عليه أحداً أو يحاولَ تطبيقه في اليقظة. كثيرٌ من الأحلام يُمحى بمجرد أن يستيقظَ الإنسانُ وتبدأ عاصفةُ النسيانِ تهب ويتبدد الحلمُ وبعضه يبقى في الذاكرةِ لفترةٍ أطول.

كنتُ في رحلةٍ إلى الدنيا من مكانٍ آخر. وكانت الدنيا واسعةً وكبيرةً وجميلةً ومغريةً ولكنها كانت مملوءةً بِجُزُرٍ وكل جزيرةٍ لها اسمٌ يصف حالها. كان هناك جزيرةُ الجهلِ وجزيرة الحربِ وجزيرة الفقرِ وجزيرة المرضِ وجزيرة الإرهابِ وجزيرة البطالةِ وكل خطايا البشر.

لم يكن هناك نقصٌ في الثرواتِ والمؤهلاتِ العلمية وتخليصُ باقي السكان من تلك الجزر لم يكن مستحيلاً. كان هناك الكثير من الأطباءِ والمهندسينَ والمفكرينَ والأدباءَ والتقنياتِ والاختراعاتِ التي كانوا يحتاجونها لمحو تلك الجزر التي كانت عبارة عن مجموعاتٍ صغيرةٍ من البشرِ الضعفاءِ والجبناء وكان قليلٌ من الناس يتعاون معهم في مقابلِ ما يعطونه من مالٍ أو يغرونه بجاهٍ أو يخوفونه بخطفه وضمه إلى إحدى الجزر إن لم يفعل. بالقرب من الجزر كان هناك مقالعُ حجارةٍ كثيرة لغرض البناء وكان أصحاب المقالعِ يفتتونها قطعاً صغيرةً حتى يتمكن العمالُ من حملها.

تجمع ذات يوم صبيةٌ صغارٌ للعب وعلى حين غفلةٍ التقط صبيٌ حصاةً ورمى بها جزيرة الحرب ولشدة دهشته أصابت واحداً من المحاربين وقتلته. خاف أن يعرفَ أصحابُهُ ويكونَ بينهم مخبراً فينتهي أمره ولكن صبياً آخرَ رمى حجراً فأصاب ثانٍ. تتابع الأمرُ، صبيٌّ ثالثٌ ورابعٌ وخامسْ كلهم أصابوا هدفاً. كان بينهم مندسينَ ولكنهم خافوا على أنفسهم فرموا أيضاً.

اكتشف أولياءُ الأمورِ أن التخلصَ من الجزر أمرٌ كان أيسرَ مما ظنوا. اقترح المعلمون أن يتولوا الخلاصَ من جزيرة الجهل فتجمعوا ولم يستغرق الأمر إلا قليلاً واختفت الجزيرة.! شجع ذلك الأطباءَ فاخترعوا دواءً يطلقونه في بالوناتٍ هوائية نحو جزيرةِ المرض يلمسه المريضُ فيشفى. أعجب ذلك المهندسينَ كثيراً فاخترعوا سلاحاً شلَّ حركةَ أسلحةِ مجرمي جزيرة الحرب فدخلوها بسلامٍ واعتقلوا وحاكموا القتلةَ ممن لم يستطع الأطفال التغلب عليه.

ازدهرت المدنُ حول الجزر في مدةٍ قصيرةٍ واحتاج أهلها بناءَ العماراتِ والأسواق والجسور فاقترح أحدهم أن يشركوا جزيرةَ البطالة. لم يتردد العاطلون عن العمل وانخرطوا في تعلم مهاراتٍ جديدة وكسب رواتب مغرية وأصبح لديهم مساكن وأزواج وأطفال. اختفت جزيرةُ البطالة وأزال ساكنوها المعالمَ القديمة وبنوا مكانها معالمَ جديدة كتبوا عليها ”اليدُ الفارغةُ يصافحها الشيطان“.

لم تتأخر جزيرة الإرهاب عن الركب طويلاً وإن قاومت. تخلت جميع الجزر عنهم وكلما حاول أحدهم الاتصال بمتعاونٍ من جزيرةِ البطالة لم يستطع لأنه مشغولٌ بعمله وإن حاول الاستنجاد بجزيرة الجهل فكلهم في الجامعاتِ والمدارس وكذلك بقية الجزر الأخرى. تسرب الكثير من هذه الجزيرة وانضم لجزيرةٍ أخرى وبقي ثلةٌ منهم لم يعجبهم ذلك التغيير.

عاد الأطفالُ للعبهم من جديد ولكن هذه المرة بالقرب من جزيرة الإرهاب. رمى أحدهم حجراً فأصاب، رمى ثانٍ فأصاب وثالثٌ ورابعٌ فأصابوا كلهم. تحقق كل ذلك بسبب إرادة أطفالٍ يلهون بأحجار.

انقضى الحلم والدنيا يكسوها الأمنُ وتسودها المبادئُ والقيمُ وانتهت الحروبُ وصارت كُلُّ القلوبِ خاليةً من الأحقاد، بيضاءَ كالثلج، واستبدلت المستشفياتُ والسجونُ بمدارسَ وملاعبَ ومكتباتٍ ولم تكن هناك حاجةٌ لقوةٍ تطبق القانونَ والعدلَ والمساواةَ. كُلُّ الناسِ كانوا يمتثلون للقيم بدافعٍ وإرادةٍ تنبعثُ من داخلِ أنفسهم وليس من خارجها.
دق جرسُ الساعة، استيقظتُ ولم يتحقق أَيٌّ من ذلك الحلم! لعله في يومٍ آخر.

مستشار أعلى هندسة بترول