آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

راحلٌ بِلا متاع

قال الله تعالى في ذكر النبي موسى في سورة طه ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى «17» ”فأتت إجابة موسى كما يلي:“ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى «18». كان الجوابُ بصيغةٍ مطولة إذ كان من الممكن أن يقول ”هي عصاي“ فيكون أجاب عن التساؤل وكفى ولكنه أضاف للإجابةِ بما تؤديه العصا من فوائد حيث لم يحصرها فقط في التوكأ والهش على الغنم بل ترك المجال للخيال مفتوحاً بما يمكن أن يكون هناك من استخدامات أخرى. وذكر المرحوم السيد محمد حسين الطباطبائي في كتابه الميزان في تفسير القرآن أن الهش هو خبط ورق الشجرة وضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله والمآرب جمع مأربة مثلثة الراء وهي الحاجة، والمراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها. ثم أضاف ”وإطنابهُ بالإطالة في ذكر أوصاف العصا وخواصها قيل: لأن المقامَ وهو مقام المناجاةِ والمسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمةَ المحبوب لذيذة ولذا ذكر أولا أنها عصاه ليرتب عليه منافعها العامة وهذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه“.

عندما كنت صغيراً أصاحب أخي الأكبر، الملا أحمد «ابا ياسر» في السفر إلى الكويت في أواخر الستينات من القرن الماضي حيث كان حينها يقرأ في حسينية الجعفرية وحسينية آل ياسين وغيرهما من الأماكن، التقيت  رجلاً كبير السن من السادة ولعله كان من البحرين. كان عنده طاسةٌ من النحاس يستخدمها لمآرب لا حدَّ لها ولاحصر! يستيقظ السيد في الصباح ويأخذ ماءً في الطاسة للوضوء وبعدها يذهب إلى مطعم اصفهان المجاور للحسينية الجعفرية سابقاً ويشتري وجبته المفضلة ”باجه“. يأكل إفطاره  ويغسل الطاسة ليشرب فيها الماء وينتظر حتى يفرغ الخطيبُ من قراءة المجلس عند ارتفاع الشمس وبعدها يجلس بجوار الباب يستجدي المال في الطاسة حتى كأنك تسمع رنين الدراهم عند ارتطامها بالمعدن.

يتكرر المشهد عند حضور صلاة الظهر والإنتهاء من القراءة بعد الظهر وكذا في الليل حيث تخدم الطاسة نفس الغرض، إلى أن يأخذ التعبُ مأخذه من السيد العجوز وينام وتكون الطاسة وسادته. عندما تتسخ بعض ملابسه القليلة يغسلها على دفعاتٍ مستخدماً طاستهُ المتعددة الأغراض وتكون رتابة المشهد على ماهو عليه حتى يحين رحيلُ السيد إلى بلده ويأخذ طاستهُ معه.

أراحَ هذا الوعاءُ المعدني البسيط السيدَ من حمل مخدةٍ لكي ينام عليها ومن كأسٍ ليشرب فيه ومن صحنٍ ليأكل منه ومن إناءٍ ليغسل فيه ملابسه ومن كيسٍ ليجمع فيه النقود حتى كاد أن ينطبق عليه القول ”فاز المخفون يا سلمان“. لو أن السيد لا يزال موجوداً اليوم وسافر عن طريق الجو فلن يحتاج إلى أن يدفع تكلفة زيادة وزن ولو اضطر للتفتيش في أحد المعابر الحدودية فلن يطول وقوفه في الصف. عاش هذا الرجل بما يخالف الحاله الإستهلاكية التي نعيشها اليوم من تكرارِ ما نملك من أشياءٍ حتى صارت الأشياءُ تملكنا بينما حقيقة الزهد بأن ليس أن لا تملك شيئاً، بل الزهد ألا يملكك شيء.

رحم الله أبا العتاهيه:

تخفَّف منَ الدُّنيا لعلكَ أنْ تنجُو
فَفِي البرِّ والتَّقوى لكَ المسْلَكُ النَّهْجُ
رأيْتُ خرابَ الدَّار يحليهِ لهْوهَا
إذا اجتَمَعَ المِزْمارُ والطّبلُ والصَّنج
ألا أيّها المَغرورُ هَلْ لَكَ حُجّة ٌ،
فأنْتَ بها يَوْمَ القِيامَة ِ مُحتَجُّ
تُديرُ صُرُوفَ الحادِثاتِ، فإنّها
بقَلْبِكَ منها كلَّ آوِنَة ٍ سَحجُ
ولاَ تحْسَبِ الحَالاَتِ تبْقَى لإهْلِهَا
فقَد يَستَقيمُ الحالُ طَوْراً، ويَعوَجّ
مَنِ استَظرَفَ الشيءَ استَلَذّ بظَرْفِه،
ومَنْ مَلّ شَيئاً كانَ فيهِ لهُ مَجّ
إِذَا لَجَّ أهْلُ اللُّؤْمِ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ
كَذَاكَ لجَاجاتُ اللِّئامِ إِذَا لَجُّوا
تبارَكَ منْ لَمْ يَشْفِ إِلاَّ التُّقَى بهِ
وَلَمْ يأْتَلِفُ إِلاَّ بهِ النَّارُ والثَّلْجُ

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
نبيل المرزوق
[ المنيرة ]: 6 / 1 / 2018م - 5:03 م
مقال جيد وهدفه جيد
2
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 6 / 1 / 2018م - 5:05 م
ما أجمل ماقرأت ، مقدمة مترابطة مع لُّب الموضوع وخاتمة جميلة تبعث على التفكر دوماً ، دام قلمك .
مستشار أعلى هندسة بترول