الوَتَد
كان عام 1979م السنة التي لم يعد بعدها يأتي خطباءٌ إلى القطيف أيام شهر المحرم من العراق بانتظام حيث كان قبلها يأتون كلَّ سنة ورأيت الكثيرَ منهم قبلها. بعض من كان يأتي في سنةٍ قد يرتضيه من يستمعُ له فيعاود المجيءَ أكثر من مرَّة. كان ذلك يشكل منافسةً لخطباء المنطقة حينها وكان من لا يحصل على ما يرتضيه من المجالس ومن ثم الدخل المرتجى يعللُ ذلك بأن حمامَةَ الحَيِّ لا تُطرب.
جاء في سنةٍ أحدُ الخطباء من العراق فطاب للناسِ وطابوا له فكان يحضر مجلسه الكثير فعاود المجيءَ بعدها لسنواتٍ ولكن كما هي الدنيا تتصرفُ بأهلها حالاً بعد حال بدأ الناسُ ينفضون عنه حتى كان ذاتَ مرة على المنبر في تاروت في الوقت المخصصِ له ولكن بدل أن يحضرَ الناسُ المجلسَ ارتأوا أن ينضموا للعزاء خارج المجلس. كان الخطيب الغريب بالداخل والناس في الخارج وهو يسمعهم ويراهم فلم يفته المغزى فقالَ ”إذا هي أقبلت أقبلت وإذا هي أدبرت أدبرت“ ولم يأتي منطقة القطيف بعد تلك السنة أبداً!
شرحَ لي والدي ما حدثَ أنه حتى تسيرَ الدنيا فلا بد أن تشبه الدولاب ففي زمنٍ ما تكونُ نقطةٌ ما في الدولاب في أقصى الارتفاع عن سطح الأرض لا بد أن تكون نفسُ النقطة في أقربِ مسافةٍ من الأرض في زمنٍ ما. وزاد والدي في حكمته بأنني أنا ابنهُ أحدُ تلك النقاط وبأن حتمية السقوط توجبُ عليَّ تحسين شروط السقوط والكيفية المتلازمة له بحيث لا أرتطمُ بالأرض دفعةً واحدة وأعطى مثل الكرّْ وراكب النخلة الذي لا يحتاجه عندما يكون في القِمَّهَ ولكن يحتاجه للنزول حاملاً الرُطَبَ على رأسه.
بعد حوالي خمسة وأربعين سنة من حكمة والدي وأنا أحاول توريثها لإبني فلم أستطع أن آتي بأفضل من مَثَلْ الكرّْ وراكب النخلة ولكن أقول له ليس بالضرورة السقوط ولكن تغير الوضع النسبي فإن أردت بدأ السيرِ نحو النهضة والحضارة فليكن لك صندوقٌ من الأدوات لمواجهة التغيير الذي لا بد أن يطرأ عليكَ ليمسَ حياتك فليكن في صندوقك أدوات لمواجهة التغيير والابداع الفكري والاقتصادي والاجتماعي وحتى الجسمي فالتغيير شرطٌ للبناء الحضري المستدام وليكن شعارك ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ فإن لم تكن لك مثل هذه الادوات فلا بدَّ أن يشملكَ قانونُ التداول…
هي الأمورُ كما شاهدتها دُولٌ
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ