وَرْدْ وَ بَارُودْ
نَكبرُ في الشرقِ سنتينِ كلَّ اثني عشرَ شهراً، واحدةً لعيسى وأخرى لمحمدٍ عليهما السلام. هَذا الشرقُ الحديقةُ المنفردةُ برسالاتِ الأنبياءِ والرسلِ والنغمةَ التي يشدو بها كُلُّ المصلينَ أجراساً ومآذنَ لا يمر يومٌ دونَ أن يَحْدِثَ شيءٌ يغير الكثيرَ في المستقبلِ ويعلو ضَجيجهُ كُلَّ أصواتِ الداعين. لا عَجَبَ أن يَنْفِثَ مخاضُ المآسي المؤلمِ سُمُومَهُ على قسماتِ وجوهنا وخبايا قلوبنا وتبدو التجاعيدُ فينا قبل ميلادنا. شرقٌ اجتمعت شعوبهُ وأعراقهُ لابتداعِ مقامِ الرستِ والبياتِ والنهاوند وكُلَّ المقاماتِ التي تمثل تنهداتِ وأفراحَ الحالاتِ الإنسانية في التدينِ والإحساسِ العاطفي والوجداني واحةً مورقةً بأصنافِ الجمالِ لن يكون إلا في مقدمةِ أظعانِ السائرينَ نحو جِبالِ الحضارةِ الشُمّْ. نحنُ أمةٌ شغوفةٌ بالحياةِ والفرحِ والمقامِ الرفيع.
نُصَلِّيَ أن يكونَ في لجج الآتي من السنينِ تشبثنا بالحياةِ أقوى وأَشْرِعَتنَا أكبرَ مقاومةً للرياحِ الملعونة، نَزُمَّ عزيمتنا ونتمسكَ بآمالنا لنضيءَ الليلَ بقناديلِ أرواحنا المتمردةَ على الظلام. تستقرالنفسُ بإدراكِ حقيقة تناوبِ ساعاتِ الحياةِ بين أحلامٍ وهواجسْ والذات بين ضَعْفٍ وقوةٍ تتشعبُ وتتفرعُ فيها الطرقُ والخوفُ يصاحبنا عند كُلِّ مفترق. متى ما كشفت لكم الحياةُ درباً فاسلكوهُ ولا ترجمو اللحظةَ التي اتخذتمْ فيها القرار.
مرت سنةٌ منذ أن طَويتُ آخرَ صفحةٍ في العملِ اليومي كنتُ فيها مثلَ الكثيرِ ممن وُلِدَ في القرنِ الماضي، لم يعمل سوى في وظيفةٍ واحدةٍ رهبةً من التغيير ورضاً بالواقع. تُلازمكَ العاداتُ وتظن أنها لن تنفك عنك لكنه كما يتبدل اتجاهُ الريحِ تتغير العادات، تعرف أناساً وتألفهم، يختفي بعضهم ويأتي آخرون، تمشي في طريقٍ تنعطف عنه ذاتَ يومٍ ولا تعود. الحياةُ قاطرةٌ تسيرُ مزدحمةً براكبيها، في كُلِّ محطةٍ يَهبطُ أناسٌ ويصعد آخرون، لا تتوقف رحلتُها عند تغييرِ مَسْرَبٍ بل تتوقف عندما نجهلُ وجهتها الكلية.
تستيقظ كلَّ يومٍ ولديكَ ما يملأُ صومعةَ روحكَ من تحدياتٍ وإنجازاتٍ وروابيَ من المعرفةِ وعواطفَ من الفرحِ والحزنِ وصفعاتِ الخيبةِ تَخْلُقُ لديكَ قاعدةً من الأحلامِ والآمالِ تدور حياتك حولها. تحدد وجهتكَ قبل النزولِ في آخرِ رسالةٍ لمن تركتهم، تعزم على أنك سوف تنشدُ وتغني وتَتَّخِذَ الحياةَ والزرعَ والبناءَ والفكرَ والتعليمَ والترحالَ والبقاءَ في الذاكرةِ وبِنَاءَ هَيْكَلَ روحك صناعةً تتلهى بها وتعويضاً لما لم تتسعْ له الحياةُ من قبل.
يَزْعَمْ الرؤساءُ أن ينجزوا ما وعدوهُ في مئةِ يومٍ ويلتزم الموظفون بتحقيقِ أهدافٍ وحَدٍّ أدنى من الانجازات. الحياةُ التي لا يُطلبُ منك فيها بيان أداءٍ تغريك بأن تكون المئةَ يومٍ وما بعدها للراحةِ والتعويضِ عما فاتَ من تعبٍ ليس إِلاَّ. تأتيك النصائحُ من كُلِّ مُختصٍ وممن سبقوكَ كيف تقضي وقتك وكيف تجمع المال وكيف تعمل هذا وذاك. إن لم تكن بحاجةٍ للمالِ فلا تعمل من أجله وإن كان عندك منه أكثرَ مما تحتاج فاصرفهُ في مَحَالِّه. لن يُغْنِي عيالكَ ما تتركهُ لهم من مالٍ مالم تورثهم الحكمةَ فإن كنت وَرَّثْتَهَا لهم فلن تصيبهم الفاقة. من يخسرِ المالَ يجدهُ ولكن أينَ يجدُ الحِكمةَ والحُنْكَةَ من فقدها. تذكر أن لُبابَ الحياةِ خلف قُشُورِ المال.
عامٌ جَديدٌ حدا حاديهِ وعما قريب تفتحُ لك الحياةُ فيه نوافذها وأبوابها وتقودكَ إلى مضجعها في أثوابٍ بيضاءَ زاهية، إذهب ولاعبها، املأ الكأسَ واشربْ معها ولكن حذارِ أن تتوهم أنها لك دون سواك فالحياةُ مخلوقةٌ عجيبةٌ لا تنسى قانونها التي ابتدعتهُ، قانون التناوب.