أنا أغلقُ الحلقة
بكل أسفٍ وردَ خطأٌ مقصودٌ فيما عنونتهُ ”اقتصادُ والدي“ حيثُ ذكرتُ أنَّ والدي توفيَ عام 1405 هجرية ولكنَّ الصحيحَ أنه لم يمت ولكن حصل خلافٌ بينه وبين قرية العبثِ فأستُدعيَ إلى ”ديوانِ الأحياء“ في ذلكَ التاريخ لينظرَ إلينا من مقرهِ وبقيَ يعلمُ بما يجري في قريةِ العبث، يحملُ همنا ويقدمُ العظةَ التي تستنطقُ الضميرَ وإليك الدليل التالي:
التقيتُ به قبلَ يومين فقالَ لي اجلس واسمع. أخبرتكَ في صغركَ أن الناسَ، وليسَ كلُّ الناسِ، ولكن اكثرهم، كانوا لا يجدون ما يسدُّ رمقهم ويموتونَ في مقتبلِ العمرِ من الجوعِ والمرض. وقصصتُ عليك أنه عندما كانت تصلُ السفنُ إلى الشاطئ في سَنابسْ يخرجُ الأهالي ليلتقطوا ما يرميهِ القادمون فيأكلوه حتى قصاعَ التمرِ كانوا يلحسونها. ولم يجدوا ما يلبسونَ حتى خاطوا أكياسَ الطحين وأطلقوا عليها ”كلْ والبسْ“، تأكل الطحينَ وتلبس الكيسَ وغيرها من جشوبةِ العيش ومكارهِ الدهر.
كُلي أذنٌ صاغية يا أبي ولكن الحمدُ لله، نحنُ الآن بخير ولدينا المال الوفير فما الداعي لذكرِ الألمْ؟ قال: ستعودونَ كما كان في السابق وستكتملُ الحلقة، شدةٌّ بعد رخاءٍ ورخاءٌ بعد شدة وهكذا هي الدنيا. علمتُ أن المال هبط عليكم كالديمةْ ولكن لم تستفيدوا منه ولم تحفظوه فالرب سينقله إلى آخرينَ يمتحنهم كما امتحنكم به. سأخبركَ بما فعلتم بالمال، فعلى مستوى الدول بكل اختصارٍ أفقرتموهم وهدمتم حضارتهم وقتلتموهم وسبيتم نسائهم فقط لتكونوا أكثر مالاً منهم. هنا قاطعته وقلتُ: أبي السياسةُ مزرعةُ شوكٍ لا تطأها قدمي فتدمى.
عندما أزوركم أرى السائق ينتظرُ في الطريق والسيارات أكثر بواحدة أو اثنتان من عدد الذكور في المنزل الذي يرتفع إلى عنانِ السماء ولا ساكنَ فيه. لم تصرفوا المال لتعلموا أولادكم فالطبيب يتخصص ولا يعرف من كتب كتاب القانون في الطب ولا بأس أن يشتركَ مع عصابةٍ ليقطع رأساً أو اثنين إن أمكن. معمارياً تخرج ولم يصمم متحفاً أو يحفظ تراثاً. من يحسب أنه من الأدباء تكسب من أدبه وعدنما يموتُ يُقبر هو وما كتب! مهندسٌ زراعة لم يزرع شجرةً واحدة. لم يأمن من جوركم البرُّ أو البحر والقائمةُ لا حصر لها. أينما حللتم، لوثتم ينابيعَ الحياةِ وحقولَ الجمال بالمالٍ الذي وهبه الله لكم لتحولوا الساقيةَ إلى نهرٍ والقريةَ إلى مدينة. أنْظُرُ إلى شبابكم فلا أرى فيهم الطهرَ والنقاوةَ والاجتهاد بل أرى الكبرياء والجفوة والكسل وهم عمادُ القادم من الأيام!
بكيتُ وقلت شكراً يا أبي، أنا أكملُ هنا: أهذهِ هي الحياة؟ سوف يأتي الربيعُ ويكسو الأشجارَ خضرةً ولكن ليسَ أشجارنا. سوف يأتي الشتاءُ مثقلاً بالثلوجِ ولكن ليسَ عندنا، سوفَ يجري الدمعُ من أحداقنا ويهجرُ الكرى أجفانَنَا إن لم نحفظ ما بقي من نعمةِ الرب علينا ”إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ“.
شكراً أبي... الحرب قد بانت لها حقائقُ ولكن ستبقى الأماني.