قراءة معرفية في كتاب الفرج
أحد الأصدقاء الشغوفون بالقراءة ومتابعة الإصدارات الجديدة قد أهداني كتاب العباس بن علي عليهما السلام بين الأسطورة والواقع لسماحة الشيخ علي الفرج، وقد قرأته برمته، وسجلت ورقة نقدية معرفية إزاء الكتاب، لا تمت بأية وشيجة أو صلة بالتحقيق والتدقيق في الموروث التاريخي الروائي المتعلق بحادثة كربلاء، لافتقاري لأدوات التحقيق التاريخي، وعدم نزوع نفسي واهتماماتها اتجاه الدراسات التحقيقية. بل هي ورقة ذات صبغة أبستمولوجية معرفية، أي قراءة ومقاربة من الدرجة الثانية من المعارف وفق فلسفة العلم.
ويندرج البحث في هذه الورقة في المحاور التالية:
- قيمة التساؤل.
- إشكالية الموضوع.
- تحليل محتوى الكتاب من خلال الثابت المطلق والثابت الجزئي.
المحور الأول: «قيمة التساؤل»
هل للتساؤل قيمة؟
التساؤلات والإثارات المعرفية والفكرية، هي التي تحرك المياه الراكدة في الأوساط العلمية، وتوقظ العقل من سباته، وتحفزه على البحث والتحقيق والتنقيب، وتعمل على استثارة دفائنه، والطريق الموصل إلى تأسيس وتأصيل النظريات، وبناء المرتكزات المعرفية والأسس الفكرية. ومن يملك هذه النزعة التساؤلية تجده ينطلق في مقارباته الفكرية نحو التأصيل النظري المعرفي والنأي عن المحاكاة والتقليد والتسليم.
وهنا نسأل إذا كان التساؤل يستبطن هذه القيمة التي تضفي على الجانب المعرفي عمقا وتأصيلا، فلماذا نجد البعض يخشى إثارة التساؤلات حول المعارف الدينية أو ما لها وشيجة بها؟
عندما ندقق في طبيعة التساؤل الذاتية، سنجد أنه يستبطن في قوامه النقد والإشكالية والتشكيكية. وهذه الطبيعة تولد في نفوس البعض المخاوف والهواجس اتجاه كل إثارة أو تساؤل، فلا يرون في التساؤلات والإثارات إلا أنها معاول هدم لا أدوات بناء أو تأسيس معرفي.
فالمشكلة هنا ليس في إثارة التساؤلات بل في الرؤية اتجاه التساؤلات.
ولكن لو نظرنا إلى التساؤل بأنه حافز ومحرك نحو البحث والتحقيق والتأصيل النظري لتبددت كل الهواجس والمخاوف وما تحمله كل تلك التساؤلات من إثارات.
والملاحظ بأن ما طرحه سماحة الشيخ علي الفرج هي صورة معبرة عن واقع التساؤلات التي تثار في الأوساط الدينية الولائية، ولذا حري بنا أن نتعامل معها من منطلق التحفيز على البحث والتحقيق لا من منطلق زرع المخاوف والهواجس.
المحور الثاني: «إشكالية الموضوع»
هل ما طرحه سماحة الشيخ علي الفرج هو تجاوز للخطوط الحمراء؟ وبصياغة آخرى: هل كتب المقاتل والمجالس - ككتاب روضة الشهداء وأسرار الشهادة للدربندي ومعالي السبطين للشيخ المازندراني ومقتل الإمام الحسين لأبي مخنف الأزدي ونحوهم - تتسم بالقدسية، بحيث لا تكون عرضة للنقد والإشكالية والملاحظة وإثارة التساؤلات اتجاهها، بل أخذ ما ورد فيها أخذ المسلمات؟
لاشك ولاريب بأن هذه الكتب وفق فلسفة العلم، هي من المعارف البشرية، فإذا كانت من المعارف البشرية، فمن الطبيعي أن تكون عرضة للنقد والإشكالية والبحث والتحقيق والتنقيب والتدقيق.
والمراجعة النقدية كمبدأ وأصل لإنتاج المعرفة موضع قبول وتأييد لدى كثير من رموز وأعلام الحوزة العلمية، إذ يقول سماحة الشيخ الجوادي الآملي: «من قال لكم أن المعارف الدينية فوق النقد والإشكال؟ الإنسان العالم الذي يناقش فكره، لا يرى قدسية لنظرياته - يقول مستغربا - فكيف يرى قدسية لنظريات الآخرين».
نفهم من كلام الشيخ الآملي بأن العالم يقوم بين الحين والآخر بمراجعة نقدية لنظرياته وأفكاره وآرائه. وإذا كانت هذه المنهجية الصارمة للشيخ الآملي اتجاه أفكاره، فمن الطبيعي لن يتساهل في قبول نظريات وأفكار وآراء الآخرين إذ لم تكن مشفوعة بأدلة مقنعة.
فإذن المراجعة النقدية المستمرة في غاية الأهمية، وهي التي أخذت بيد الفيلسوف الإنجليزي الملحد أنتوني فلو نحو الإيمان بالله بعد مسيرة طويلة في الإلحاد امتدت إلى قرابة أكثر من خمسين عاما، ويعتبر من أشهر الملحدين في العالم، ومن أكثر المدافعين عن الإلحاد.
وعلى هذا أرى بأن ما قام به الشيخ الفرج من مراجعة نقدية خطوة جريئة تسجل له، حيث فتح كوة في جدار الموروث التاريخي الروائي المتعلق بواقعة كربلاء.
ولا يعني بأن ما توصل إليه الشيخ الفرج ينبغي أخذه موضع تسليم وقبول، دون مناقشة أو حوار جاد، بل حري بالمهتمين بالشأن التحقيقي ومن يمتلكون أدوات تنقيب التاريخ أن يعالجوا ويقاربوا الموروث التاريخي الروائي لواقعة كربلاء بموضوعية تامة، من منطلق حيثما يكون الدليل نسير.
المحور الثالث: «تحليل محتوى الكتاب من خلال مصطلحي الثابت المطلق والثابت الجزئي»:
بعد أن قرأت كتاب الشيخ الفرج، حاولت مقاربة محتواه، فلجأت إلى استخدام المصطلحين السالفين. فماذا يراد بالثابت المطلق، وماذا يراد بالثابت الجزئي؟
يقصد بالثابت المطلق هو الثابت في أصل القضية دون تغيير وكذلك الثابت في تفصيلاتها دون زيادة أو نقصان.
ويقصد بالثابت الجزئي هو الثابت في أصل القضية دون الثابت في التفاصيل.
ولإيضاح هذين المصطلحين نأتي بمثال توضيحي:
عندما ننتفق بأن الحوزة العلمية مؤسسة علمية، ونختلف في فاعليتها وحيويتها، فهنا ثابت جزئي، حيث لا يوجد مساس بأصل الموضوع، وهو كون الحوزة مؤسسة علمية، ولكن الاختلاف في الزائد على ماهيتها وحقيقتها، وهو فاعليتها وحيويتها.
وعندما نطبق هذين المصطلحين على محتوى هذا الكتاب، سنجد بأن الشيخ الفرج لا يختلف مع أصحاب المقاتل والمجالس الحسينية في أصل القضية وهو كون العباس شخصية تتسم بالتضحية والفداء والأخوة الصادقة والاتصاف بصفات العبد الصالح. بل يختلف معهم في التفصيلات القابلة للزيادة والنقصان.
أي أن الأمر لا يدور بين النفي والإثبات في أصل القضية، بل الأمر يدور بين النفي والإثبات في تفصيل القضية.
وعلى هذا الأصل ثابت، والتفاصيل متغيرة، أي أن الثابت هنا جزئي.
والثابت الجزئي كثير ما نلحظه في أبحاث العلماء، حيث يتفقون على وجود الله، ويختلفون على تفصيلات صفاته.
وفي الختام أرجو ألا يكون جهد الشيخ الفرج البحثي هو نهاية المطاف، بل حافز إلى مزيد من الجهود البحثية التحقيقية في منطقتنا الثرية بالعلماء الأجلاء ممن لهم يد طولى في القضايا التاريخية.