الفرج وإشكالية المنهج
الكتاب: العباس بن علي بين الأسطورة والواقع
المؤلف: علي الفرج. منشورات بيت الحكمة الثقافي
لا زلتُ أتذكر جلساتي الخاصة مع الشيخ علي الفرج ربما قبل ما يقارب العشر سنين، حينها كان بيت الحكمة في القديح في بداية نشاطه، وكنتُ أنا في غمرة نشاطي الديني. أتذكر أني حاولتُ جاهداً أن أحرك الشيخ لطباعة مجموعة شعرية أو نثرية جديدة ولكن للأسف باءت محاولاتي بالفشل في جمع وترتيب ما لم يُطبع لأسباب ترجع للشيخ وأسباب ترجع لغيره. أتذكر تلك الجلسات الهادئة بنقاشاتها الأدبية، وأتذكر إعجابي بكتابه عن البلاغة وقد كنت حينها لا أدع كتاباً في البلاغة إلا واطلعتُ عليه. لكن هذه العلاقة بيني وبين الشيخ لم يُكتب لها أن تنمو. ويبدو أن كتابات الشيخ التي حاولتُ إخراجها لم يُكتب لها أن تخرج أيضاً.
بمصادفة سارة في إحدى المناسبات القريبة تفاجأتُ بالشيخ وتفاجأ بي بعد هذه المدة الطويلة إذ تغيَّرَ وتغيرتُ. فسألني خِلسةٍ بابتسامته الجانبية إن كنتُ قرأتُ كتابه عن العباس وقد كُنت اقتنيته منذ بضعة أيام إذ أني سمعتُ به أو قرأت عنه شيئاً. وما راعني بعد مدة إلا ووسائل التواصل تشن حملةً عليه بعدَ محاضرته التي لم أحضرها. فاستأت من تهجم الناس عليه بلغةٍ غير لائقة، ولكن هذه اللغة على ما يبدو أصبحت من ضمن قاموسهم الإيماني مع كل من يختلفون معه، حتى ولو كان مؤمناً مثلهم.
الغريب أنك حين تقرأ قصة الكتاب ستحس بوداعة الكتاب والكاتب حيث أنها مكتوبة بلغة الرجل المؤمن المهذب الذي يشارك إخوانه المؤمنين إيمانهم وشكوكهم الإيمانية الساذجة، ويريد أن ينير لهم دربهم الرسالي، ويعطيهم درساً عن العوالم الروحانية، لكن هذه اللغة لم تحم الشيخ من توحش إخوته المؤمنين حين أحسوا أن كتابه يقف على هاويةٍ يلتبسُ في بطنها الشعبي بالأسطوري بالتاريخي بالمقدس الديني، فاحتوشوه بأسنانهم.
يحاولُ الفرج في كتابه أن يضع حداً فاصلاً بين الأسطورة والواقع كما هو واضح من العنوان من خلال دراسة الأخبار الواردة عن العباس بن علي بن أبي طالب أحد أبطال كربلاء وأحد الرموز الأكثر شعبية في ذهنية المجتمع الشيعي كنموذج من بين نماذج كثيرة في التاريخ اختلط في سيرتها الواقعي بالمتخيل. ومن خلال تتبعه لتلك الأخبار التي يغرف منها المنبر الحسيني وجد أن كثيراً من هذه الأخبار تنقطع مصادرها عند القرن العاشر وما حوله، أي أنها ليست لها مصادر متصلة بمصادر قبلها تروي عمن عاصر الحدث التاريخي الذي حدث قبل عشرة قرون بشكل موثوق، في حين أن قلة من الأخبار ترجع إلى مصادر في القرن الرابع وما حوله، وحتى هذه الأخبار التي ترد في الكتب المتقدمة حين تحضر في الكتب المتأخرة فإنها أحياناً لا تحضر كما هي وإنما يُزاد فيها تفصيلات لم تكن موجودة في الروايات المتقدمة. وعلى هذا قام الفرج بوضع خط زمني فاصل بين نوعين من الروايات: المتقدمة منها والمتأخرة واعتبر أن هذا الخط فاصل بين المتخيل والواقعي، وعليه قام برفض كل رواية انقطع مصدرها عند القرن العاشر مهما كانت مكانة مؤلف الكتاب الدينية. وبذلك يكون الشرط المنهجي للكتاب هو تصنيف كل رواية حسب تاريخ مصدرها الأساسي فإن كانت متأخرة يتم رفضها أو إن كان لها أصل متقدم وكانت بها تفاصيل لم ترد بذاك الأصل فإنه يتم رفض هذه التفاصيل. ولذلك فإن الفرج يسأل كل رواية هذا السؤال: إلى أي قرن ينتمي مصدركِ الأساسي؟ وهذا ما يفعله طوال الكتاب.
وهنا يردُ علينا إشكالان متعلقان بالمنهج. الأول: هل يعني هذا أن الخط الفاصل الذي وضعه الفرج هو خط نهائي، أي أننا بما أنا رفضنا روايات القرن العاشر فإن هذا يعني أننا نقبل بروايات القرن الرابع ونصنفها أنها ضمن الواقعي أي أنها روايات تُخبر عن الواقع كما حدث في الماضي قطعاً. شخصياً لم أجد عبارة صريحة للفرج تعبر عن هذا المعنى أي أن كل رواية تنتمي للقرن الرابع فهي مقبولة، ولكنه لأنه لم يتعرض لروايات القرن الرابع بالمساءلة فمن الممكن أن يذهب ذهن القارئ لهذا المعنى. ورأيي أن الفرج لو كان يعتقد بهذا الاعتقاد فعليه أن يراجع هذه النقطة جيداً، فروايات القرن الرابع ومصادرها أيضاً يختلط فيها الواقعي بالمتخيل كما أفادت دراسات كثيرة تناولت تاريخ الطبري وكتب السيرة النبوية وغيرها بذلك. وبذلك فالحد الفاصل الذي وضعه الفرج ليس نهائياً. وعليه فأعتقد أن مشروع الفرج لم يكتمل بعد، فقد قام بمساءلة روايات القرن العاشر وفرزها وهذه مرحلة أولى يجب أن تتبعها مرحلة ثانية وهي مساءلة روايات القرن الرابع وفرزها.
الإشكال الثاني: إذا كانت المسألة مسألة أن روايات القرن العاشر انقطع مصدرها، أليس هناك احتمال أن يكون مصدرها اندثر ولم يصل إلينا، وبالتالي فإن هناك احتمال ثان غير أنها موضوعة. فلماذا يصر الفرج على رفضها حيث يقول ص14: ”وانحصار رواية بعض الأحداث في مصادر حديثة لا يمكن الركون إليه لأنه لم يعاصر تلكم الأحداث، ولم يرو عمن عاصرها، وهو ما يجعل رواية هذه المصادر لتلكم الأحداث غير مقبول من الناحية العلمية والمنهجية. وهو ما يفرض على الباحث رفضها وعدم قبولها“. وقد أجاب الفرج على هذا الإشكال بثلاثة أسباب:
1 - أن كتب القرن العاشر لم تشر لمصادر معينة لهذه الروايات بل أحالت لمجهول كقولهم ”عن بعض الأصحاب“ أو ”نقلها بعض الأكابر“ أو غير ذلك.
2 - أن صياغة العبارات وأنماط الألفاظ تختلف بين روايات القرن الرابع والعاشر كما تحفل روايات القرن العاشر بالمبالغات والأوصاف الشعبية.
3 - أن بعض الروايات مسحوبة على بعضها أي أن هناك شخصيات تاريخية مختلفة تقع لها أحداث متشابهة في أزمنة مختلفة.
ثم يتكلم الفرج عن أن القرن العاشر بدأت تظهر فيه كتب المقاتل مثل كتاب روضة الشهداء الفارسي وكتاب المنتخب للطريحي وأسرار الشهادة للدربندي وغيرهم، وقد امتلأت هذه المصادر بروايات ضعيفة وروايات موضوعة، إذ أن هدف هذه الكتب هي أن يُلقيها الخطباء على المنابر لإبكاء الناس، لذلك غاب عنها التحليل التاريخي لواقعة كربلاء، وكثرت فيها البطولات الغرائبية وخوارق العادات والطبيعة، وتحول لسان الحال فيها إلى لسان المقال. وقد غاب دور المؤسسات العلمية والحوزات - حسب رأي الفرج - عن دراسة هذه الكتب والتحقق من رواياتاها وتُرِك الخطباءُ ينهلون منها كيفما يشاؤون في المجالس، ولأن هذه المجالس مرتبطة مادياً بأسباب عيشهم فقد تساهلوا في إشاعة الروايات الضعيفة أو عديمة الأساس أو الشفوية أو التي مصادرها مجهولة أو منتحلة، لكي يصلوا إلى هدفهم وهو إبكاء الناس.
والحقيقة أن الفرج هنا يحاول الخروج من الصندوق قليلاً، حيثُ أنه لا يريد أن يدرس روايات القرن العاشر كما في الدراسات الدينية الكلاسيكية من حيث السند والمتن فقط، وبالتالي يعامل روايات القرن العاشر كغيرها من الروايات التي تنتمي لأي قرنٍ كان بلا ميزة لها عن غيرها، إذ أنه يضيف إلى الأدوات الكلاسيكية في دراسة الروايات أداة التحليل التاريخي لكيفية وأسباب وعوامل نشوء مصادر القرن العاشر الروائية. وهو ما قام به في صفحات الكتاب بالوقوف على كل مصدر من هذه المصادر وبيان الظروف المحيطة بالكتاب والكاتب والنظر في مصادره وما قيل عن هذه المصادر وما قيل عن كيفية التأليف والملاحظات الي قيلت عن الكتاب من معاصري المؤلف ومن غير معاصريه، وهو ما يوصل القارئ في نهاية الكتاب إلى أن هذه المصادر فعلا تعاني من مشاكل يجعل أمر الركون والاطمئنان لها أمراً صعباً جداً في العموم. وبالتالي فبالنظر لحال تلك المصادر وحال الروايات الواردة بها فإن ذلك - حسب تعبير الفرج - ص 16: ”لا يُفضي بالباحث إلى قناعة بأنها مروية عن مصادر قديمة لم تصل إلى العصر الحاضر، حتى يكون ذلك دافعاً إلى قبولها واعتمادها علمياً“. وقد يظن البعض أن الملاحظات التي احتوتها مصادر القرن العاشر قد جعلت من الفرج يرفض رواياتها لأنها فقط تنتمي لهذه المصادر وهذا غير صحيح، فالفرج قام بالوقوف على الروايات رواية رواية ودراستها من حيث مصدرها، وقد قام بتطبيق شرطه المنهجي الأساسي، ثم قام برفضها بناء على ذلك الشرط، فهو حين يرفض رواية وردت في المنتخب للطريحي لا يرفضها لكونها فقط وردت في المنتخب، والمنتخب كتابٌ عليه ملاحظات، بل يرفضها لأن مصدر الطريحي في هذه الرواية مجهول أو منقطع.
وفي رأيي أنه كان ينبغي للفرج التوسع في تسليط الضوء على ظروف القرن العاشر كون هذه النقطة تعد مرتكزاً أساسياً في بحثه، فالمقدمة التمهيدية كانت مقتضبة ومختصرة ولا تفي بالغرض، كما أنها أيضاً في رأيي تحتاج إلى إعادة صياغة وترتيب، فالكلام عن المنهج يجب أن يكون وافياً وواضحاً. ولا أعلم إن كان الفرج نسيَ أو تناسى تسليط الضوء على الظروف السياسية للقرن العاشر حيثُ أن حركة التأليف والجمع الروائي وترويج الطقوس ونشر ثقافة البكاء كان له علاقة بسياسة الدولة الصفوية، وقد كان للعلامة المجلسي مثلاً صاحب بحار الأنوار علاقة سياسية بالدولة وقد كان يقف على قمة السلطة الدينية، وبالتالي فكما كانت السلطة السياسية تدعم السلطة الدينية فالعكس أيضاً صحيح. وبالتالي لا يجب في دراسة المجلسي وكتابه مثلاً أن ننظر للأمر من داخل الصندوق فنناقش متن وسند الروايات أو ننظر إلى ما قاله الأعلام في ترجمته، بل يجب أن نخرج من هذا الصندوق وننظر إلى تأثير العلاقة السياسية في الكاتب والكتاب، وهذا ما لم يفعله الفرج، ولو فعله لكان قد أثرى كتابه وزاد من عمقه معرفياً. على أن هذا الجانب قد تناولته عدة دراسات سابقة وكان بإمكان الفرج الاطلاع عليها والاستفادة منها.
أمرٌ آخر يتعلق بالمنهج. أن الفرج بعد أن يطبِّق شرطه المنهجي الأساسي على الروايات، وهو إلى أين ينتهي مصدرها، فيرفض الرواية لأن مصدرها مقطوع، فإنه يدعم هذا الرفض بعدة أمور، منها:
أولاً: أن هذه الرواية لا تتلاءم مع تصوره الشخصي عن الشخصية التاريخية، كأن يقول أن هذا الفعل الذي في الرواية أو هذا القول لا يتلاءم مع أخلاق الشخصية أو مع طبيعته أو مع الموقف الذي هو فيه. ولا يخفى أن عدم الملاءمة هنا هو رأي شخصي فما يراه الفرج غير ملائم قد يراه غيره ملائماً، وقد يكون هذا الرأي صواباً وقد لا يكون.
ثانياً: أن الرواية تحتوي على المبالغات غير مقبولة. وهذه النقطة في بعض الأحيان تكون محل خلاف إذ ما قد يراه الفرج غير مقبول يراه غيره مقبولاً.
ثالثاً: احتواء الرواية على مغالطات تاريخية، كأن تتعارض الرواية مع حوادث ثابتة، أو أن الراوي يروي عمن توفي بعده بزمن طويل وليس عمن قبله، أو أن أحداث الرواية تتضارب مع بعضها. وهذه قرينة لا خلاف عليها.
رابعاً: دراسة الطبيعة السردية للنصوص من حيث نوعية الألفاظ والعبارات والأقوال الشعرية، حيثُ أن الطبيعة السردية للنصوص التي تنتمي للقرن العاشر مختلفة عن التي تنتمي للقرن الرابع. وهذا ما يغلِّب الظن بأنها مصنوعة في القرن العاشر. والحقيقة أن الفرج لم يعطِ هذا الجانب حقه من التحليل إذ كانت ملاحظاته مقتضبة وسريعة، في حين أن نصوص المقاتل هي مادة خصبة للتحليل السردي، والفرج لا تقصره الأدوات عن أن يُمتعنا وأن يُسهب في القول في هذا الجانب، بِما لا يُخرج عن طبيعة الكتاب، ولكنه لم يفعل.
ولرب قائلٍ يقول إن طبيعة السرد للحدث لا تهمنا هنا بل ما يهمنا هو الحدث التاريخي، فنقول عليك أن ترجع بالرواية للشرط المنهجي الأساسي، أما الطبيعة السردية فهي قرينة داعمة لا دليل أساسي، أي أن عليك إثبات أن هذا الحدث منقول من خلال وسائط معتمدة ومتصلة لزمن الحدث، فإذا أثبتَّ ذلك فقد أبطلت كلام الفرج عن الرواية، أما إذا لم تفعل فلا تطالب أحداً بالإيمان بها. وهذه الإشكالية ليست متعلقة بنقطة الطبيعة السردية فقط، فلو أن الفرج رفض رواية يراها لا تتلاءم مع أخلاق الشخصية التاريخية أو أنها رواية لا يقبلها العقل وأنت لك رأي خلاف رأي الفرج إذ الرواية تحتمل الخلاف، فهذا لا يعني بطلان قول الفرج إلا بإثبات اتصال الرواية عبر القرون بشاهد الحدث اتصالاً موثوقاً، وعلى المدعي الإتيان بالبينة كما يقولون.
في النهاية، قد نختلف مع الفرج في بعض الروايات، وقد نقبل برواية قام بردها أو نرد رواية قام بقبولها، لكننا قطعاً لا نختلف معه في النتيجة الأساسية للبحث وهي أن أغلب الروايات المتداولة على المنبر في موضوع العباس مقطوعة المصدر وليس لها اتصال بمصادر موثوقة قبلها توصلنا لشاهد الحدث. وكون أن لدينا بعض الملاحظات على بعض الجوانب في الكتاب فهذا لا يعني إسقاط الكتاب علمياً أو التقليل من شأنه، فالكتاب به مجهود علمي وبحثي وتتبعي واضح وشجاع أيضاً، فهو يقوم بتطبيق الشرط المنهجي على الرواية مهما كانت شهرتها ومهما كانت مكانة مؤلف الكتاب، وهذه شجاعة نادرة في هذه الأيام. وللأسف فإن الرد الذي يلاقيه نظير هذا الجهد وهذه الشجاعة هو السباب والشتائم والتسقيط الشخصي، وهو ما نرفضه تماماً. لا يجب علينا أن نتفق مع الفرج في كل نقطة، ولا يجب علينا كذلك أن نشتمه حين نختلف معه.
وإذا نظرنا لهذه الروايات التي رفضها الفرج من جهة أدبية وليس من جهة دينية فإنها في اعتقادي تمثل سيرة شعبية للعباس، منبعها هو خيال الناس وعاطفتهم، وهم إذ يستعيدونها ويتأثرون بها فلأنها متصلة بمشاعرهم. وككل الأمم فإن لأبطالها سيراً شعبية تحمل قيمهم ومشاعرهم بين ثناياها، وتحمل من المبالغات وخوارق العادات ما يستمتعون بروايته، وهم بطبيعة الحال يضيفون لها من الأحداث ما لم يكن ويخصبونها بخيالاتهم زمناً بعد زمن، وهذا أمر طبيعي. المشكلة تكمن في أن سيرة العباس الخيالية ملتبسة بقضايا دينية، وهذا ما يجعل الفصل بين الواقعي والمتخيل فيها أمراً حساساً ومؤلماً، ولكننا كمجتمع يريد أن يرتقي فكرياً لا بد أن نقوم بهذا الفصل على المستوى العلمي على الأقل، وهذا ما حاول الفرج أن يقوم به، لكن هذا لا يعني أن نتبرأ من هذه السيرة وأن نلغيها وأن لا نقرأها وأن لا نتأثر بها.