ميلادُ أنثى
يوم أن ولدتُ ابنتي كانت الدُّنيا قد أزهرت ورداً في جميع فصوله، وبدت لي العاطفة فضاءً شاسع لافلك فيه إلا الحب الذي تحوم حوله أمومتي، دثرتُها بقماطٍ من رحمة الله، وأعذتُها وقلبها وجميع جوارحها من الشيطان الرجيم، وكم كان لحنٌ رقيق بدعاءٍ شفيق أصدقُ مايكون من أُمٍ على وليدتها، وما تلك الرحمة التي أعطانيها ربي إلا قبسٌ من رحمته حين يكفِّلها قلبِ الأبوين لتكون كما تليقُ بأنثى، أوَليس هو القائل: وليس الذكرُ كالأنثى، حين كانت الكائن الأرهفُ حساً والأرهفُ جسماً كانت الأخصُّ بوصايةٍ من الله لمجمل حقوقها في سورةٍ من كتابه، وكنتُ كلما نظرتُ إليها أشفقتُ على وجنتيها الناعمتين أن يشيح عليهما قطن القماط، فيخدشهما وإن كان ناعم، ولا أفترُ أدعو أن لايُخدَش قلبها يوماً من الدهر، وكنتُ كلما سمعتها تبكي هاج قلبي نحو عمرها القادم ودعوتُ أن لايبكيها دهرٌ ولا يحزنها خطب، وكانت كلما ابتسمت بسمات المهد الغزلية تطير روحي إلى العُلا من فوق السماء الدنيا ثم تعود محملةً بفرحٍ مرهف رهافة حبة ندى في ذات فجرٍ رقيق، أشهرٌ من العمر التي بلغتها حتى اليوم، وكأنني لا أريدُ لها أن تغدو صبية وتفتح ماتخبؤه لها الأيام في خزائن الأنثيات، حين جاء المهنئون يوم ولادتها كانت دعوةً دعوا بها شذَّت عن ماكانوا يدعون به يوم أن أنجبتُ صبياً، دعوةً بالستر تكللّت بلحنٍ واحد كان صادقاً ومتوجاً بعاطفةٍ وردية فالمولود أنثى، لكنني استهجنتها استهجان من اختلف عليه الأمر، حين لم يكُن ذلك إلا للأنثى! فرحتُ أُعلِّل فرحتي المكدورة، فماهو السترُ الذي يُرادُ به لأنثى؟ هل لأنها أنثى وجب أن تُستَر وتخبَّأ عن الخلائق فتكبر ثم يستر زوجها اسمها عن أسماعِ كل الرجال وكأنها سقطةً من سقطات الزمن التصقت على ذمته؟ أم يُستَر بصرها إن شاح يوماً ولو على سبيلِ أنثى تُحاكي خيالها في السِّر ولاتتجرأ، أم يُستر لسانها عن البوح عما يختلجُ في خطراتها، أم يُستر جمالها وشخصها وأحلامها حتى يسوِّغها لها رجل، إن كان كفأً فقد تكلل الجمال، وتُوِّجَت وارتفعت وتكرَّمت وانحسر نصف ماعلى كتف والديها ممايقال «هم البنات إلى الممات» وإن لم يكن كفأً فنصف الهم باقٍ حتى الممات، أما إن لم يقدر الله أن يأتي فواحسرةً على الأنثى والوالدين معاً.
برأيي إن كان السِّتر حسنةً توصف ومحمدةً يدعى بها فحريٌ بها أن تكون للذكرِ والأنثى سواء، الخطيئة تخطر على قلب كل بشر ولا تفاضل في ذلك، وفي السِّتر مكرمة نطمح بها من الله على كلٍ سواء، لاننفك ندعو للفتاة بالستر من أول يومٍ في مهدها حتى ذلك اليوم الذي تتزوج به، ثم تنفكُ عنها هذه العوذة اللصيقة التي ملكت عليها كل أمور حياتها وضيقت عليها الخناق حتى ألِفَته ولم تعد ترى فيه خناقاً بل واستحبت أن تكون الجارية وشهريار يتنقل في أدوار حياتها وعزاؤها أجرها المدخر عند الله وكفى!
لاأريد لابنتي أن تعيش حياتها على قارعة الإنتظار، جمالها مؤجل حتى يؤكده رجل يطلبها للزواج، أحلامها مؤجلة، انطلاقها في الحياة مؤجل، حصولها على حقوقها مؤجلة حتى يحققها زوجها، لستُ في سبيل المستقبل المتشائم حول الأنثى ولكنني أرى في أنثى الغد أن تعرف لها طريقاً تثبتُ فيه استقلالها وامكانيتها ولابد من أن تضع ضعفها جانباً في مواضعِ كثيرةً في حياتها، بيدَ أن الكثيرات استطعن أن يقدنَ حياتهن في منأى عن الرجل حين أردنَ ذلك أو شاءت لهم الظروف ذلك، قيل عن التعاسة أنها رجلٌ في حياة أنثى، سواء جاء ثم ذهب أم بقي وأتعسها، لكنني أرى التعاسة حين جهلت المرأة مكانها أمام ذاتها وقوتها ونفسها، لا بأس بشيء من الإستقلالية نكفلها بناتنا منذ الصغر من غير أن نقول لها إذا سمح أباكِ إذا سمح أخاكِ ثم تكبر وتخاف أن تتخذ أي قرار من غير أن يوقع لها رجل على ذلك، تتزوج وتوكل جميع قراراتها وأمورها بيد زوجها من أتفه أمر إلى أهم أمر ثم تصبح بلاهوية ويرى بها الضعيفة التي لاتحسن أمور حياتها فيستقل شأنها ويستصغر مكانها، وترى في ذلك غبطة وسروراً من حيث لاتعلم، حين ظنت أن في ذلك رضاه ورضا الله، ثم يمضي عمرها وترى أحلامها المؤجلة قد تطايرت وتبعثرت أمام عينيها بيد رضاه أو سخطه، لابد من التفرقة بين الواجبات الدينية والمسلمات والإستقلالية، وكفانا إغراقاً لفتياتنا في بحر واسع من خليط من ذلك كله، حتى إذا أوشكت على الهلاك وأرادت النجاة على يد زوج لايدل للنجاة طريقاً أغرقها وأهلكها، وهي الحبيبة على قلب أبيها والعزيزة بين أهلها، لكننا حين حشرناها في زوايا ذكورية تتنقل من ظل رجل إلى آخر ضاع عليها الأمر وشتان مابين ظلِّ أبيها وظلِّ زوجها في معظم الأحيان إن جاز لي الإنصاف، خلقت المرأة من طينةٍ عجنت بالعواطف، فكانت شعاع الدنيا على أهلها من الحب والعطاء، ولكن ثمة وسوسة لإبليس فشلت في اختراق عقل آدم فألقى بها في قلب حواء ولأن عاطفتها سبقت عقلها كانت قد نزلت هي وزوجها من الجنة ومذ ذاك الزمن وحواء وبناتها يدفعن ثمن قلوبهن، وأولاد آدم لم يزالوا على وجلٍ أن يسقطوا من الأرضِ إلى ماهو أعمق من الهاوية هذه المرة كما سقط أبوهم من الجنة إلى الأرض حين أكل تفاحة حواء!
لثمة إنصاف عميق تتجلى به المساواة في تلك الآية حين قال الله ﴿ودلاَّهُمَا بغرور﴾ إلى آخر الآية والخطاب كان موجهاً إلى الإثنين آدم وحواء! خطيئة اشترك بها الزوجين الذكر والأنثى والموروث أصَّلَ الخطأ في الأنثى، ولو علمت حواء ماسيكون على بناتها لتقيأت التفاحةُ دماً على ظهر ِ الأرض وارتاحت بقبرها!
لثمة قوامةً متناغمة أراد الله أن تمضي بها حياتنا، حين كان عنفوان رجل وقوته يكمله عطف وحنان امرأة، وحين كانت حصانةً منسجمة صاغها الله ليستر بها الإثنين ذكراً وأنثى، وكم كان جميل ذاك اللباس الذي فصله الله فلاقَ بامرأة على قوته ولاقَ برجلٍ على رقته، فكنا لباساً لهم وكانوا لباساً لنا، وكم هي مدهشةٌ تلك الضعيفة في خلقها الطاغية في عواطفها وتأثيرها، فرفقاً بها.