المنتديات الثقافية، جسور تواصل ومنصات حوار
الحركة الفكرية ضرورة لكل مجتمع يحب الحياة والتجديد ويكره الجمود والتخلف، إذ إن المجتمعات إنما تنمو وتتطور بهذه الحركة، فليس التطور والحضارة بنايات شاهقة وسيارات فارهة ومصانع عملاقة فحسب، بل هو اتساع آفاق الناس ومداركهم بالحوار والأخذ والرد وتلاقح الأفكار، وهذا هو أحد مقاصد الشريعة حين يقول تعالى ﴿... يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ...﴾.
وتظهر هذه الحركة في وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وقنوات فضائية ومواقع انترنت ومنتديات ثقافية.....
ومنتدى الثلاثاء بالقطيف في المملكة العربية السعودية هو واحد من هذه المنتديات، منتدى ثقافي أسبوعي تعقد فيه ندوات تدور حول شتى المواضيع الإجتماعية والفكرية، ويدعى إليه كتاب ومفكرون ورجال دين.... من شتى التوجهات والمشارب الفكرية، ومن مختلف مناطق المملكة، فهو يقوم بدور بناء في تعزيز ثقافة الحوار والتلاقي بين الأطياف المختلفة، فعمل كهذا ينبغي أن يحمد ويلقى الدعم والتشجيع والمشاركة من فئات المجتمع عمومًا ومن رجال الدين والمثقفين خصوصًا.
والغرض هو أن يقوم كل من لديه فكرة ما بعرضها في تجمع ثقافي سواء أكان منتدى أو غيره وبعد ذلك الناس يسمعون ويقرؤون ويتفاعلون، كل بطريقته، بدلًا من أن تبقى الأفكار حبيسة في نفس الشخص ولا يعلم مآلها بعد ذلك، فالمحصلة هو حركة وتموج ثقافي في المجتمع، لا جمود وركود، حركة يتبين فيها الخطأ من الصواب للشخص نفسه وللمجتمع.
ومن الطبيعي أن يعطى الضيف الحرية في الكلام ضمن الأطر الأخلاقية المتعارف عليها ولا تفرض عليه قيود خارج هذه الأطر، لأن ذلك يفرغ المنتدى من محتواه ويبعده عن هدفه.
ما يطلبه القائمون على المنتدى من الضيف مسبقًا هو عنوان موضوعه والنقاط التي سيتحدث عنها لتضمن في الإعلان الذي يرسل إلى الناس ليحيطوا علمًا بالموضوع محل الحوار، وبعد ذلك الضيف يأخذ حريته في الحديث، وقد يضيف وقد يحذف، وقد يستطرد.
وهل هناك أعظم من الله جل وعلا وقد حاور إبليس - وهو الباطل المحض - وسأله أن يبين العذر في امتناعه من السجود ولم يحكم عليه مباشرة.
وها هو القرآن الكريم ينقل أقوال الطغاة والمتجبرين مع أنبيائهم كما قالوها، في رسالة إلى الناس أن لا يخشوا من نقل الأقوال المخالفة للحق ما دام هناك من يرد عليها ويبين بطلانها.
وهذا رسول الله ﷺ وقد حاور الكفار وأتباع الديانات الأخرى، وهؤلاء الأئمة الطاهرون جالسوا الزنادقة والمنحرفين وحاوروهم، وكتب التاريخ تزخر بالمناظرات مع هؤلاء.
فهل يصح إلقاء اللوم على الأئمة الكرام لأنهم سمحوا لمخالفيهم بالجلوس معهم والتكلم بالكلام الذي يبلغ حد الكفر بالله أحيانًا؟ فكيف والحال أن الأمور التي يتحدث حولها في المنتدى هي أمور تفصيلية في الحياة العامة والدين وليست أساسيات الدين أو المذهب.
المنتدى تجمع مفتوح لكل من أراد التحدث حول أي قضية وبحرية تامة حسب قوانين البلد، ولا يعني ذلك أبدًا أن صاحب المنتدى أو المقدمين يوافقون الضيف في كل فكرة أو إنهم يدعمون توجهه الفكري، أو إنهم يسعون إلى نصرة نمط فكري معين، فهم يستضيفون أناسًا من شتى التوجهات والمذاهب والمناطق.
وفي البرامج التي يقيمها المنتدى لا يقتصر الحضور على الضيف، فهناك جمهور حاضر يسمع كلام الضيف ويناقشه فيه وقد يعترض عليه، وكل ذلك ينشر على الملأ بعد ذلك مكتوبًا ومصورًا، وليس عمل المنتدى كالقناة الفضائية التي تستضيف شخصًا وحده ويتكلم بكلام ما ويبث، دون وجود رأي آخر يقابله ويرد عليه، حتى يقال إن المنتدى يروج لفكر معين أو جهة معروفة ولا يعرض الرأي الآخر.
وحسب علمي إن الجميع مرحب به في المنتدى وأنهم لا يضعون خطًا أحمر على أحد بدلالة تنوع المشارب التي ينتمي إليها الضيوف.
وقال بعضهم: المنتدى «مؤدلج» وشرحها بأن المنتدى يختار أناسًا من توجه معين، ولم يوضح ما هو هذا التوجه؟
إذا كان المتحدثون الراغبون في المشاركة قلة، وفي بعض المرات بالكاد يجد القائمون على المنتدى من يقبل المشاركة، فكيف يلامون بعد ذلك؟
نعم، إذا تقدم من يريد المشاركة ورُفض لأنه مصنف ضمن تيار فكري معين، فحينها يمكن قبول هذه الدعوى، فليت القائل بهذه المقولة يورد لنا موردًا واحدًا رفض فيه من يريد المشاركة، وكان الرفض مستندًا إلى توجهه الفكري.
وهذه رسائل المنتدى التي يرسلها لحضور ندواته وهي تشتمل على اسم الضيف وموضوع الندوة، فليجمعها شخص ويخبرنا ما هو الأمر أو الخط الفكري الجامع بين هؤلاء الضيوف؟
ولكن مع ذلك كله لا مفر من وجود أناس يضعون العراقيل أمام أي حركة تساهم في تنمية المجتمع، وهذه هي طبيعة بعض البشر من ماضي الزمان إلى يومنا هذا.
ففي إحدى الأمسيات استضاف المنتدى أحد الشيوخ الأفاضل، وهو الشيخ علي الفرج، وتحدث حول قضايا تاريخية وأبدى وجهة نظر فيها تخالف ما هو المعروف بين الناس، فتلقف البعض ذلك ووجدها فرصة سانحة واتخذ منها ذريعة لشن هجوم بنبرة مرتفعة على المنتدى والقائمين عليه، هجمة تجاوزت الأطر الإنسانية والأخلاقية وتجاوزت نقد الفكرة إلى النيل من الأشخاص والطعن في سيرتهم والغوص في نواياهم.
إن من حق الجميع أن يناقشوا كلام الضيف المتحدث، ولكن عليهم أن يحصروا نقاشهم وكلامهم معه دون التعرض للمنتدى والقائمين عليه، فذلك أبلغ في التأثير، وأقوى في الردّ، وأصفى في النية، أما أن يتخذ كلام الضيف ذريعة للهجوم على المنتدى والقول بأنه لم يجر سوى الخيبة والخسران الخ فهذا كلام العاجز الذي لا شيء عنده، وهو ليس سوى تصفية حسابات قديمة، لا غيرة على المذهب ولا هم يحزنون وإن أظهروا ذلك للناس.
فليت هذا القائل يوضح للناس بكلام بيّن يفهمه كل قارئ، كيف إن المنتدى جر الخيبة والخسران على المجتمع؟ وليأت بأمثلة على ذلك، ولا يكتفي بالعناوين العريضة.
وآخر وصف القائمين على المنتدى بالمنافقين دون توضيح لكيفية انطباق الوصف عليهم.
أمر مؤسف أن ينحدر المرء في كلامه إلى هذا الحد من الضرب في الآخرين بلا وازع من دين أو خلق.
والمؤسف أيضًا أن تقوم جهة معنية بنشر أخبار محافظة القطيف بنشر هذه الكلمات المسيئة على أنها خبر، في خروج واضح عن المهنية في العمل الإعلامي، وانحياز واضح للوقوف مع جهة في المجتمع أمام أخرى، فهل إن هجوم بعض الأشخاص بالكلمات السيئة على جهة ما ينشر على أنه خبر، كائنًا من كان قائل هذه الكلمات، مع عدم وجود فرصة للرد من القراء للخبر؟ نعم لو نشر هذا الكلام في موقع بحيث تكون فرصة للردود من القراء لكان الخطب أهون.
إن هذه الخطوة هي تغذية واضحة للفتنة، وضرب لروح التآلف بين فئات المجتمع، ولا تقل سوءًا عن فعل القائل لتلك الكلمات.
رمي الناس بقبيح القول بلا دليل هو خلاف الخلق السوي، والله جل وعلا وضع الضابطة حينما قال ﴿... قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.
إذا رأى المرء عملًا ما في المجتمع - سواءٌ أكان من فرد أم جماعة - ولاحظ فيه عيوبًا، فما هو الإجراء المعتاد في تلك الحالة؟ أليس هو الحديث إلى القائمين على العمل وتوصيل الملاحظات إليهم؟ أو حتى نشرها على الملأ ولكن بلغة مهذبة؟
أما التشهير والتهريج والغمز واللمز من قريب ومن بعيد فهو ليس سوى عمل الغوغاء قليلي الحيلة وضعيفي الحجة.
فهلا ذهبوا وشاركوا في المنتدى وعرضوا ما عندهم من أفكار هناك؟ وسيجدون قبولًا وترحيبًا، ولكن هيهات، لا يفعلون ذلك، لأن ذلك يفوت عليهم الغرض من الظهور بمظهر المدافع عن المذهب والحريص على عقائد الناس وكأن الله انتجبهم لهذه المهمة، مع أنهم لو لاحظوا أنفسهم وشغلوا بإصلاحها لكان ذلك أعود عليهم بالنفع.
وطبيعي جدًا وليس عجيبًا إذا صدر ذلك الهجوم على المنتديات الثقافية من بعض رجال الدين، فهناك فئة منهم يحبون خفق النعال من خلفهم، ويريدون من الناس أن يكونوا أتباعًا لهم بلا بصيرة، خلافًا لقول الله عز وجل ﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي...﴾، وهم يقفون في مواجهة أي توعية للناس وتقوية لروح النقد وتمييز الأفكار عندهم لأن مكانتهم في نفوس قائمة على جهل الناس وبساطتهم، فإذا ارتفعت مدارك الناس وسمت عقولهم انفضوا من حولهم وطبيعي أن يخشوا من ذلك.
وهذه الفئة من عباد الله سواء من رجال الدين أو غيرهم - مع الأسف - تعيش على افتعال الأزمات وتقتات منها وهم أبعد ما يكونون عن الموضوعية والإنصاف، دائمًا يتكلمون بكلام عام يخاطبون به عواطف الناس لا عقولهم، ويتجنبون التفصيل والتوضيح والإتيان بأدلة، لأن ذلك يكشف زيف كلامهم وبطلان دعواهم، حيث لا أدلة لديهم ولا تفصيل مقنع لمن يخاطبونهم.
وشعارهم دائمًا هو المذهب والعقيدة والحفاظ عليها لدغدغة عواطف الناس فيظهرون بأنهم هم الأكثر غيرة على الدين والمذهب من غيرهم.
وكمثال على التحدث بالعمومات قول بعضهم: رائحة المنتدى أزكمت الأنوف، فسئل القائل كيف؟ وضح لنا هذا الكلام بأمثلة؟ فلم يرد.
وليعلم كل من يسلك هذا المسلك من الضرب في الناس والطعن فيهم بلا دليل أن حاجز الخلق والدين هو الذي يمنع أولئك الناس من الرد، وليس قلة الحيلة وضعف الحجة والبيان، وإلا فالأمر كما قال القائل:
إن لسلمى عندنا ديوانا
يخزي فلانًا وابنه فلانا
كانت عجوزًا عمرت زمانا
وهي ترى سيئها احسانا
إنه لأمر بسيط يدركه كل إنسان، أن طبيعة كل المنتديات هكذا، ضيوف من شتى التوجهات والأفكار، مواضيع متنوعة قد يتفق المرء وقد يختلف معها، وقد ترضي بعض الناس وتغضب آخرين، والنتيجة أنه لا يصح مؤاخذة القائمين على المنتدى بما يقوله الضيوف.
فمن كان عنده رأي أو ملاحظة حول منتدى أو أي تجمع ثقافي فليذكره بأسلوب حضاري مؤدب ويتجنب الطعن في الأشخاص وليذكر أدلة على كلامه حتى يقنع به قارئه.
ولا يليق بالمؤمن أن يفجر في الخصومة، فإن من يفعل ذلك فإنه يوهن حجته ويجعل الناس يقفون مع خصمه حتى لو كان الحق معه هو.
وعلى أي حال، هذه طبيعة البشر، لا يمكن إرضاؤهم جميعًا، ولم يسلم كل مصلح أو صاحب فكرة من القيل والقال، فرسالتي إلى القائمين على المنتدى: استمروا في مسيرتكم، واستفيدوا من الملاحظات والانتقادات البناءة، ولا يضركم من يلجأ إلى التهريج والسب والشتم والاتهامات التي بلا دليل، ولا يفتّن في عضدكم قول المثبطين وكيد الكائدين.