آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

وإن تعفوا

طاهرة آل سيف

كانت يدٌ حمراء تلك التي طالت عنق الإسلام فأردته قتيلاً، قالوا إنهم أبناء الإسلام فإقتادوه إلى عصورٍ من العتمة وضيعوه في دهاليزٍ شقتها معاول الجهل والعصبية، والإسلام كالطَّودِ الراسخ، شامخ يُحَوِّلُ نظره من جماعةٍ إلى أخرى ومن زمنٍ إلى زمن، بريءٌ منهم براءة الدم من قميص يوسف، يُقلِّبُ كفيه على ما أنفقوا في دنياهم فخسروها وخسروا آخرتهم وهم الذين يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً!

قد نتدثر بأثوابنا، ونغض أصواتنا حتى لا يسمع الأجنبي إننا مسلمون في بلاده، والأشدُّ وطأةً على قلوبنا أنا ما أخْلَفْنَا أمْرِنَا بِمَلْكِنَا ولكِنَّا حُمِّلْنَا أوزاراً من القومِ لم نقترفها وكذلك ألقى عدوَّنا!

بالأمسِ كان رجلٌ في عمر المشيب، أتت صورته عبر الفضائيات، بين جمعٍ من الحضور في أحدى المحاكم الأمريكية، دخل وأبدى التحية في إنحناءةٍ مهيبة ساكنة، بدت خطواته هادئة متزنة، كان مسلماً يعيش في أمريكا لديه ابن قُتل أثناء عمله في إحدى المطاعم حيث تعرض لموقف سرقة إنتهى بخسارة روحه، ثم تم القبض على الجاني.

لم تكن الجلسة كما تقتضيها حناجر المترقبين، ولا أنفاس الحاضرين، ولا تصاعد القلوب حتى التراقي في انتظار صدور الحكم على الجاني، لم يكن هناك قصاص يُقال فيه للحق قد ظهرت وللباطل قد زهقت، وقتاً ساعاته وربما دقائقه لم تكن مما يعدهُ أهل الدنيا، لثمة راحة مما يعايشونها أهل الجنة حين قيل أن في الجنة ينعمُ الإنسان بحلاوة الصفات الحميدة، كان ذلك قد هبط على قلب الرجل حتى طال الحضور جميعاً في مشهدٍ متخم بالمشاعر الإنسانية، كان تسامحٍ جليل أجهش الحاضرين على إثره بالبكاء، حين وقف ذلك الرجل أمام القاضية وقال: سنتان انقضتا حتى موعد الجلسة هذه، كان بركاننا يفيض بالغليان، انتظرنا يوم انفجاره عله يملأ قلوبنا بغليله ويشفي صدورنا من غيضها، حتى هذا اليوم والكرى مجافٍ عيوننا، وتمنينا الموت أن يطال أجسادنا المُرهقة حتى العدم، قد لاتكون رغبة الجاني في بلوغ الموت أكثر من رغبتي، بيدَ أن كلانا وجد راحته من الألم في الموت، وإن كان ألم الفقد أشدُّ ضراوة وافتراساً على إنسانٍ من ألم الذنب! حيث الفاقد لن يعود له ماخسره والمذنب سيجد له سبيلاً من العفو فلربما عوض شيئاً خسارته، لكنني كنت أعوِّل الأمر على الله، فأحسستُ أن رسل السماء تطبب جراحاتي حين أقرأُ في كتاب الله ﴿قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا، ثم أنا اليوم باسمي وباسم والدة فقيدنا نعفو عمن قتله قربةً لله تعالى وتطبيقاً لما يحب ديننا دين الإسلام دين التسامح، انهمرت دموع القاضية وأشاحت بوجهها عن الحضور، لربما مرت بلحظات تُغسل بها الأرواح ممالاصقها من عوالق الدنيا ثم تنتشي بعدها بالطهر الذي سلبته إيانا الدنيا وأحوالها!

ثم قام الجاني بخطواتٍ وكم كانت ثقيلة ولا أدري أأثقلتها السلاسل بين قدميه أم أثقلها الذنب؟؟ أم هو الحياء أمام البذح الجارف من الأخلاق؟ ثم عانق أبو القتيل وقال: لا أجدُ الكلمات ولا أستطيع أن أستحضر خواطري في هذه اللحظات، لكنني آسف وأطلب منك العفو! في عناقٍ مؤثر إلى حد البكاء، قال أبو القتيل: اعمل الصالحات بعد اليوم وسيغفر الله لك.

جال المشهد في ذاكرتي على نحوٍ متكرر، أكبرتُ موقف العفو وأعظمته منه ومن أي انسان وضع رسالة السماء في قلبه على اختلاف ديانته، ولكنه أعظم في نفسي حين كان من رجلٍ مسلم في بلدٍ أجنبي لعلَّه بذلك رقع قطعةً من ثوب الإسلام الممزق على أرضهم! ثم أدهشني الموقف فقلت: هل هذا كلُّ مايُقال من إنسانٍ إلى قاتل ابنه؟ هل ياتُرى قد قلب دفتر حياته برمتها واختار أن يبدأ صفحةٍ بيضاء ناصعة لدرجة أن تتماهى فيها كل الدنيا بمرها وحلوها فلا طعمٍ يستساغ ولا كلام يقال في دنيا بلا ابنه، ثم ماهذه القوة الجبارة التي تقتاد الإنسان للتسامح على درجة من الترف، عالية ومطلقة؟ هل وجد في قول الله «وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله» فكانت الكلمات قد أسدلت على قلبه حجاب عن الثأر؟ ثم ربط على قلبه وأمَّل أن يقع أجره على الله وكفى؟ ولكن يبدو أن الرجل قد رأى في القدر تصرفاً لايد له فيه ليدفعه ولا خيار له ليختاره! فاختار الرضا عما كتبه الله له، وكم كان تصالح عالٍ مع النفس انعكس على جميع أقداره لربما، حتى جاءت به الدنيا على حافة الهاوية تراهنه على مبادئه وإيمانياته، فما كان منه في ذاك المقام إلا أن يمسك نفسه على هونٍ أو يدسُّ مسلماته في التراب، وهو الوالد الفاقد الذي لايُلام! تُرى هل تعمد العفو قاصداً أن يطلق رسالة للسلام من أهل الإسلام لأهل العالم وفضلها على قصاصٍ قد يكون به راحة أوجاعه ولو على سبيلٍ طفيف!

أياً كان ذلك حاولتُ تفرس وجهه مراتٍ علي ألتمس القوة التي جمع بها الألم والرضا والعفو معاً فلم أستطع، ولكن يبدو أن القوة الخفية تسقط من السماء إلى الأرض وتستقر بالقلوب بمددٍ من الله لاتدركه الأبصار!

لكم تباهت نفسي حين عفوت وسامحت في مواقفٍ بدت لي اليوم تافهة، في السادس عشر من نوفمبر من سنة 1996م كانت جمعية الأمم المتحدة قد اختارته يوماً للتسامح فكان دعوة لجميع الأعراق والطوائف والمذاهب ولربما جميع المواقف التي يتعرض لها البشر فيما بينهم للعفو والتسامح، دعوتُ الله أن يمدني بالقوة التي تدفع النفس عن النفس حين كانت القوة في التخلي عن تحصيل ماتريده أعظم وأكبر، ولا أدري أيُّ جزاء عظيم سيتلقاه المرء من ربه حين قال: ﴿ومايلقاها إلا الذين صبروا ومايلقاها إلا ذو حظٍ عظيم، لكني في لحظةٍ من الشفافية رجوتُ من الله العفوَ وتحصيل الحظ العظيم.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 22 / 11 / 2017م - 9:22 م
فقط لو كانت الحياة بتلك البساطة. ولكم في القصاص حياة هكذا قال ربنا. يفقد القاتل حياته حين يقتل والسارق حصانته حين يسرق.
كتابة رصينة وجميلة.