التعليم بين الترغيب والترهيب
لا يُعد البيت المصدر الوحيد الذي يمكن أن يتعرض فيه الطفل للإساءة، بل يمكن أن تكون المدرسة أيضاً مصدر آخر يتعرض فيه الطفل لأساليب التحقير والتوبيخ والإهانة والترهيب والقسوة والضرب والعنف والعقاب. فكثيراً ما تصدر من الأطفال/الطلاب تصرفات عفوية وتلقائية وذات دوافع طفولية فضولية استكشافية. فهم دائماً يتصرفون على سجيتهم، مما ينتج عن ذلك أخطاء وسلوكيات سلبية، أو تصرفات مزعجة. غير أن بعض المعلمين والمربين والموجهين يتعاملون مع مثل هذه التصرفات العفوية بغضب وانفعال، أو بعنف وقسوة وعدم احترام، ويرعبون الأطفال بالتهديد والتخويف، ويستعملون معهم العنف، سواء كان ذلك العنف لغوياً من خلال التلفظ بالكلمات الحادة والجارحة والنابية، أو باستعمال الضرب، بل والضرب المبرح بالعصا، أو الجلد بالسياط، أو الركل والرفس من دون رحمة، وبعيداً عن العقلانية والكلمة الطيبة، ومن دون الموازنة بين مفهومي التربية والتعليم الذي يجب أن يلتزم به كل معلم. حيث لا يجوز معاقبة الطفل بالضرب، والتعدي على حقه في الانطلاق والإبداع والاكتشاف والفضول.
وها هي العديد من مقاطع الفيديو التي تُبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين حين وآخر تكشف عن حوادث وحالات اعتداء بالضرب تعرّض فيها أطفال صغار للضرب المبرح والقاسي على أيدي معلميهم ومديري مدارسهم، حيث يُفرغ هؤلاء شحناتهم الغاضبة، والمخزونة في نفوسهم على شكل تصرفات وكلمات تسيء للأطفال وتضر بهم، ظنناً منهم بأن عقوبة الضرب هي أفضل طريق لترويض التلاميذ، وتربيتهم وتعليمهم الآداب الحميدة، أو لتحفيزهم على المذاكرة ومراجعة الدروس وفهمها وحفظها، فيما الحقيقة أن هذا الاسلوب التسلطي المتوحش هو أقصر الطرق لتحطيم نفسية الطفل وفشله وانحرافه وتقوقعه وانسحابه الاجتماعي واستعداء المجتمع.
إن العنف الذي يتعرض له طلاب المدارس يُنبئ عن خلل كبير في أبجديات التنشئة السليمة، وأساليب التواصل السويّة مع الناشئة، والتي تعزز نموهم العقلي والنفسي وحتى الجسدي. فالعنف الجسدي يخفي في طياته العنف النفسي والإهمال، وقصور تلبية الحاجات الذهنية والبدنية والنفسية للأطفال، إذ ”لا تقتصر آثار العنف الجسدي الواقع على الأطفال على الندوب الجسدية، أو الكدمات، أو الألم الجسدي، فالعنف الجسدي يجعل الطفل عرضة لآثار نفسية وجسدية وسلوكية عدة طويلة المدى؛ والتي تَذكر منها منظمة الصحة العالمية، ضعف الأداء المدرسي، وضعف المهارات الاجتماعية، والاكتئاب، والإحساس بالقلق، وغير ذلك من المشكلات النفسية. كما يذكر التقرير الصادر عن «يونيسيف» حول آثار العنف على الأطفال أنهم أكثر عرضة لتعاطي المخدرات والحمل أو إقامة العلاقات الجنسية في فترة المراهقة، والانحراف السلوكي.“ [1]
إن حوادث الضرب والتعنيف المتكررة في المدارس عادة ما تترك آثاراً سلبية، ليس فقط على الطالب الذي تعرض للعنف والضرب والإهانة، بل يمتد ذلك إلى مجموع الطلبة الذين شاهدوا الحادثة أو سمعوا بها، خوفاً من ملاقاة المصير نفسه، حيث تصاب نفوسهم بالخوف والهلع من شيء أسمه معلم أو مدرسة، إذ ينطبع في أذهانهم أنها مكان يتعرضون فيه للتعنيف والضرب، فبدل أن يشجع المعلم التلاميذ على التعلم، ويرغبهم فيه ويحببهم إليه، فإنه بهذا الاسلوب العنفي الفج يتسبب في إرعابهم وترهيبهم وتنفيرهم من التَعلُّم، مما يكرههم في التعليم والمعلم والمدرسة، لا سيما أن هذا الأسلوب العنيف في التربية/التعليم هو أحد أسباب التسرّب من المدارس في العديد من الدول، حيث يدفع الأطفال أثماناً باهظة دائماً من صحتهم وحياتهم ومستقبلهم.
يشير الباحث التربوي حسن ناظم إلى "أن انتشار ظاهرة الضرب في المدارس انعكس سلباً على سلوكيات التلامذة وتسببت في نتائج عكسية. فبدلاً من قيامهم بأداء واجباتهم والاجتهاد في الدراسة، وهو ما يتوقعه المعلمون الذين يستخدمون هذه الوسيلة المتخلّفة، يتسرّب التلامذة من المدارس ويتجهون إلى سوق العمل في وقت مبكر قبل أن يتمكنوا من إتقان القراءة والكتابة، بل ويتزوّجون في أعمار صغيرة جداً.
ويضيف ناظم أن ”من النتائج النفسية التي ولّدها الضرب في المدارس، استخدام الأطفال للأسلوب ذاته مع أشقائهم الصغار، حين يطلب منهم الأهل تدريس الأصغر منهم، إذ يعتقدون أن دور المعلم لا يكتمل من دون استخدام العصا وضرب التلميذ، كما أنهم يستخدمون الضرب وسيلة للدفاع عن أنفسهم أمام زملائهم في المدرسة، وباتوا أكثر عنفاً في هذا الجانب“. [2]
إن معاقبة الطفل بالضرب بصفة مستمرة، وتعنيفه على كل كبيرة وصغيرة يرتكبها، وتوبيخه على أتفه الأسباب، يحوله إلى كائن عنيف وعدواني، فبالإضافة إلى الأضرار الصحية التي يمكن أن يسببها الضرب، فإن الأساليب العنفية تجعل منه شخصية غير سوية، وتصيبه بالأمراض النفسية والمعنوية. "فالضرب يتسبب في عدم تشجيع الطفل على طلب التعلم، حيث يصاب بحالة من كتمان وكبت المواهب، وعدم إبداء الرأي والتعبير عن الطموحات، ويرسخ في ذهنه أن الأسلوب الوحيد للنجاح يكون من خلال الضرب والتعنيف. ويسبب الضرب نمو طرق تفكير غير سوية لدى الطفل، فعلى سبيل المثال يتطور لديه اعتقاد أن تحقيق العدالة لا يحدث إلا باستخدام الضرب والعنف والعدوان على الآخرين. ويدفع الضرب بعض حالات من الأطفال إلى محاولة إيذاء نفسه، وربما يفكرون في الانتحار.
كما يعمل الضرب على كراهية الطفل للتعليم ويسبب فشله، ويصيبه بحالة من القلق والتوتر والخلل النفسي، ويقضي على روح التفكير والإبداع، ويقود الطفل إلى الخوف والجبن وقتل الشجاعة لديه. ويهز الضرب ثقة الطفل بنفسه، ويجعله يميل إلى الخجل والانطواء والبعد عن الناس والانعزالية، ويُلجئ الطفل إلى الكذب والنفاق والخداع هروباً من عقاب الضرب. وبعض الأطفال ينحرف نتيجة الضرب والإهانة المستمرة. ويساهم الضرب في حدوث بعض حالات التفكك الأسري، ويمكن أن يشجع الطفل على ترك المنزل والهروب؛ بسبب هذا العقاب". [3]
إن تكرار مثل هكذا حوادث يشير إلى تقصير من قبل الإدارات المسؤولة والمشرفين على شؤون التعليم، وعدم الالتزام بمعايير التعليم، والتي تنص على منع الضرب والعنف ضد التلامذة. ففي الوقت الذي على الجهات المسؤولة عن تربية الأطفال وتعليمهم الحرص على انتقاء من يصلح للقيام بهذه الوظيفة، وإيلائها العناية الفائقة، فإن من واجبها أيضاً أن تولي سلامة البيئات التعليمية من كل السلوكيات السلبية، من ضرب وتعنيف ولغة مهينة وألفاظ نابية، وإن ضمان عدم تكرار مثل هكذا حوادث يتطلب معاقبة الذين يمارسون السلوكيات العنفية ضد التلامذة وفصلهم من الوظيفة، ومحاسبة كل المخطئين والمقصرين وعزلهم عن ممارسة أي أدوار تعليمية وتربوية.