آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

إمرأةٌ رأت الغد

استعصى عليَّ الكرى ليلَ أمسٍ فاستعرضتُ شريطَ الذكريات. مرت بخاطري امرأةٌ كأنَّها رأت غديْ.

كنتُ صغيراً أطوفُ حولَ قبرِ الحسينِ اتلصصُ واستمعُ أمانيَّ الكبارِ قبلَ نصفِ قرنٍ، ألهو واختبِئُ بين أطرافِ خُمُرٌ النساء.

تختزنُ ذاكرتي صوتَ امرأةٍ طلبت ثلاثَ أمنيات، حنتْ رأسها ونادت الحسينَ كأنهُ ملاذها من الأشواكِ الغضة وحددت المطالبَ ”سيدي أبغى زوجاً وولداً وزيارة“. تحليلُ الطفولة لم يراها صعبةً، ولكن رآها مثل السلسلة، يأتي الزوجُ ثم الولدُ ثم الزيارة، المالُ وافرٌ والمواصلاتُ موجودة والأبوابُ مفتوحة، أعجبتني وتبنيتها ما المانع؟ زوجةٌ وأولادٌ وزيارة، أضفتُ لها من فرط حبي للسياراتِ أن أقودَ سيارتي كي لا أنامَ مع الحافلةِ في البصرة. لم أكن أعلم أنها أمنياتٌ دونها خرطُ القتاد.

الآنَ وقد مضى خمسونَ عاماً على الحادثة، لعلَّ الصبيةَ حينها في نهايةِ السبعينات من العمر الآنَ، تقرأُ ما كتبت وتذكر أمنياتِها وهي تطوفُ على قبرِ السيدِ الكبير مع زوجها وابنها الذينِ تمنتهما فكل رجائي أن تذكرَ الطفلَ الصغيرَ الذي أمسكَ بطرفِ ردائها قبل خمسينَ عاماً لتعرفَ أن أحلامهُ كبرت  وودَ لو أنَّ له جناحانِ يخترق كل الحدود ويذهب أينما شاء وكيفما شاء ومتى ما شاء.

نصحوا كلَّ يومٍ ويحتفلَ أناسٌ بولادةِ دولةٍ لهم ليسَ فيها إلا لغتهم أو لونهم أو دينهم ويبكي آخرونَ على انكماشِ أرضهم التي افلتت أو سُلبت وفي كلِّ الحالاتِ لا تختفي الحدودُ والقيود، بل تزداد، منتهى الحماقة! ربما يأتي يومٌ يتصالحُ فيه العالمُ وتُفتح الحدود ويعمَ الأمنُ وتنتفي بعضُ الأماني وتحل مكانها أماني جديدة.

الإنسانُ هو الكائنُ الوحيد الذي يعتني بلونهِ وعِرقهِ ودينه. يقلدُ في العقائدِ والعبادات ويقتل عليها بدون أن يتفحصَ محتواها. يختارُ الفاكهةَ من أفضلِ فاكهاني ويشتريَ الساعةَ واللباسَ بعد أن رفضَ عشرينَ نوعاً ويشتريَ السيارةَ والبيتَ بعد استشارةِ كل متخصص وقراءة كل معلومة ولكن يأخذ العقيدةَ والعصبيةَ عن أبيه وأمه، وكأنها شهادة ميلاد، في بعضِ الأحيان يقتلُ من خالفهُ  ويَشنَأ من لا يرى ما يراه، مع أن عيوبَ الروحِ أشدُّ فتكاً من عيوبِ المادة. هو الكائنُ الوحيد الذي يُقولبُ النزاعَ من أجلِ مقاليد السلطةِ والثروة في المجتمع إلى نزاعٍ ديني وحضاري. صراعٌ يَشغلُ الشرقَ والغربَ عن معالجةِ عوزهِ وضعفهِ ومعرفة أن الشمسَ تُشرقُ على جميعِ الناس.

تغلبَ الإنسانُ على الطبيعةِ وقهرها براً وبحراً ولكن لم يستطعِ التغلبَ على طبيعتهِ النفسية البغيضة، تبَّاً له من مخلوق.

مستشار أعلى هندسة بترول