المسرح
يحصلُ العاملونَ الذين نُحسُ بأثرهم في حياتنا على بعضِ التقدير وقد يتعدى إلى تقديرٍ من هيئةِ العمل التي يعملونَ فيها أو الدولة أحياناً. أضف إلى ذلك الشهرة والإعلام والتصوير والاحتفاء إن حالفهم الجد والحظ!
من للبسطاءِ الذين يعملون على مسرحِ الحياة بصمتٍ، فلا تمثيلَ ولا إخراج ولا آلة تصوير ولا جمهور ولا جريدة ولا وسام؟
قد لا يهمك عند خروجك من سوق السمك القديم في القطيف غرباً أن ترى عجوزين يبيعانِ ما تيسر لهما فقد صار معتاداً منذ العديد من السنواتِ أن يكونا موجودين، فلا إجازة ولا حر ولا برد وبالطبع ليسا موظفين فيهربا من العمل بتكاسلٍ أو تقاعدٍ مبكر، هما رجلٌ وامرأة تراهما كل يوم.
تلتفعُ المرأةُ الطاعنة في السن بملاءةٍ سوداء صيفاً وشتاءً بعد أن كانت صبية يوماً ما، ناعمةَ الخدين وصوتٌ يلامس الناي لكن هل يترك الزمن ظهراً مستقيماً أو كفاً رطبة! تبدو يدها ظاهرةً عروقها ممتدةً مثل النخيل التي تملأ واحة القطيف. نعرفُ عمرَ الشجرةِ من امتداد عروقها وعدد حلقات جذوعها وعمرَ المرأةِ من تشعبِ عروقِ ظاهر كفها، لعله تلازمُ الشجرة والمرأة في توازن الحياة فكلاهما ثابت متجذر ومتمردٌ الجوهر. لا يمكنك تقدير عمرها ولكن بالتأكيد لا بد لك أن تقدر جُهدها وحبها للحياة. قليل من الحشائش والليمون البلدي والرطب واللبن هو كل ما تبيع. لا تلح على أحدٍ في الشراء ومن يسأل عن السعر يأتيه رقمٌ بين العشرة والخمسين معطوفاً على كلمة ولدي. تأتي باكرةً ولا يهمها الوقتُ حيثُ الظلُّ يكون منبسطاً باكراً غرباً في أول ساعات النهار الممتلئة بسحر الهدوء.
أمتارٌ إلى اليمن رجلٌ في الخريف من عمره، انحنت رقبتهُ حتى كادت أن تمسَّ صدره، لا يمكنه النظرُ بعيداً ليرى القادم، يلف رأسه بغترةٍ بيضاء، لا يحتاج النظرَ في المرآة ليعرف هيئته قبل الخروجِ من بيته، إنه ذاهب إلى مسرح الحياة الحقيقي الذي لا يهم فيه المظهر بل الحب والتفاني والعملُ والكسبُ المشروع. أذكر أني رأيت شابين منذ سنوات يريدان أن يأخذا صوراً له فلم يكن من السهل أن يبدو كما يريدان فلا ترى منهُ سوى رأسهُ المنحني.
تنامُ الحياةُ عند الكثيرِ من الناس باكراً وينزوي جلهم عن العمل في ربيع العمرِ ويبقى البعضُ حيَّاً حاملاً مشعلاً مهما ارتجفت يداهُ ومهما بدت عروقُ كفيهِ كالشجر. نركع لله بأن أمثال هؤلاء الذين لا ينتظرون تمثالاً أو وساماً أو تسجيلاً يتداوله الناس موجودون ويضفون على الحياة معنى. لا أعرف إن كانوا بحاجة للعملِ من أجل المالِ وهل لهم من يعولهم ولكني متأكدٌ من أنهم ليسوا بحاجة لدموع البكاء على أنفسهم. بإمكان هؤلاء التسول أو التسكع بعذر العمر ولكن مصارعة الموت عند العزيز أهون من الذل. هكذا رأيت أبي وأمي وكثيراً من آبائكم وأمهاتكم...
يجب أن نعيش أنا وأنت وقد لا يكون المطلوبُ منا نقلٌ الصخرِ من مقره ولكن أن نوقظ الحياةَ الرابضة.