صفحة من كتاب
من يزور العراق كمن يدوسُ على شوكِ الطريق، سبعة عشر ساعة فقط وتصل النزلَ المتواضع في رفعةِ النجف. يبدو عليك التعبُ صباحاً، يناديك شاب هجر المدرسة كي يجر عربته ويكد على نفسه ”أبو علي، رايد تركب عربة“. لا، أبو علي شاب ولا يركب العربة.
تنزل زخات من المطرِ يبدو فيها العمودُ القديم في مقدمةِ شارعِ الرسولِ الأعظم على يساركَ من بابِ القبلة وأنت تصعد درجاتٍ إلى محلة الحويش، قبيل الفجر مضاءً وأكثَر أناقة بعد 50 سنة مذ كنت أجلس تحت ظله ارقبُ بائع الدهينة التي كانت تسحرُ حليماتِ ذوقي. تحسن لونُ العمود ونبتت حوله أعمدة أخرى.
كثير بلا عمل، كثير يبحث عن عمل، كثير يبحث عن الهروب ولكن الكثير يمشي على الطريق المزدهر. حقول يفلحها نساء ورجال، سبحان من جمع الموت والحياة.
تمشي وتتحرك كأنك تقرأ صفحةً من التاريخ، حرب بين علي ومعاوية بما يمثلان ومن تبعهما. خراب، ودمار، تخلف، ملاسنات، وكأن القادم لا ينقل الصورة. أسلوب في الحياة مشى عنه الناس خمسين سنة. أسماء تلمع في تاريخ النجف، أولها السيد الأكبر علي، وكبار أصغر منه، طوسي، خوئي، حكيم، طباطبائي. بلد فيه توق وشوق للنهوض ولكن يقع في الزحام ويطأ الناس جسده كلما أراد.
من لا يمكث في البلد سوى يوماً أو يومين ليس له حق المشاركة في الرأي والقرار، هو لا يعيش المعاناة ولا يتنفس الحياة ويتذوقها كل يوم، لكن يرى أن مع الظلام هناك أنوار. بلد يستغفرك الشرطي ويبتسم لك موظف المطار هو بلد وضع رجله في الركاب.
رقٌَت عباءةُ المعدان وخشن جلدي عن أن تؤذيه. يتفرد النجف في رفعته ولا يتفرد في تخلفه وليس بقاء عمودي الثابت الجوهر والمتغير الهيئة وقابليته التكاثر سوى دليل على أن الخطوة والفرسخ في عالمنا العربي يجب أن تتبعه خطوات من التقدم وفراسخ من المسيرة حتى يبتعد عن العبث والتخلف ولا ينظر إلى الخلف في سردية التاريخ.
يزخر الوطن على امتداده بتاريخ ليس أقل أو أصغر من غيره ولكن حاضره أقل من حاضر غيره من الشعوب الخضراء.
تزين كثيرا من المحلات وواجهات المنازل وجوانب الطرقات صور شهداء كتبت أسماءهم شاكين السلاح في حياتهم، أكثرهم في قوس الحياة الصاعد، وخلفهم تصور راسمٍ لعلي بن أبي طالب ومع هذا وذاك دار للبيع لوحة أخرى على كثير من البيوتِ في أطراف المدينة. كل الصلاة والدعاء أن تبقى الاولى على شموخها وتختفي الأخرى. دار في الفردوس لا يجب أن يبيعها مالكها!
النجف الاشرف